" العود الأبدي - ما بين كونديرا وبيلا تارر ورؤية بريسون "
" في عام ١٨٨٩ وبعد انتشار الأقاويل عن مرض نيتشه العقلي وابتعاده عن الناس وفي احدى الليالي بينما يمضي نيتشه في سبيله يرى حوذياً يضرب حصانه بالسوط، يحضتن نيتشه الحصان ويجهش بالبكاء "
ميلان كونديرا في رواية كائن لا تحتمل خفته يربط ميثاقاً قوياً بين تيريزا وهى أحد اشخاص روايته وبين نيتشه وكان هذا الميثاق متأصلاً ومستنداً إلى الشفقة والعاطفة التي لا مبرر لها غير أنها لا تنبع إلا من روحٍ إلى روح، مستهزءاً بمنطق ديكارت وهو أن الحيوان عبارة عن آلة بلا روح..
كونديرا يقول أن تيريزا ونيتشه يتنحيان عن الطريق الذي تسير فيه الانسانية مكملةً خطاها الي الامام وقبل أن يسلك الإنسان هذا الطريق اختار أن يتخلي عن عاطفته وخفة روحه بتمسكه بالمنطق وغرقه في وهم المادية..
إلى جانب تيريزا ونيتشه سارت ماري المعذبة، وهى الروح التي ضلت الطريق ولم تجد من يحتضنها حتى صادفت بالزار..
"إننا سكارى، هائمين في تلك الحياةٍ باحثين عن ضالتنا، تلك التي عاش الكثيرين منا وماتوا وهم عابسين في سبيل إيجادها "
إن ماري قد وجدت تلك الضالة، ذلك السبيل الذي لم يُشرط ويقترن بالإنسانية، ماري وجدت الخفة والسكينة في روحٍ أثقلها الإنسان بالهموم، ذلك الإنسان التعس الذي لم يفهم معناً للروح...
إن العود الأبدي عند كونديرا هو شكل من أشكال الخفة اللامتناهية لأنه يرى أن في التكرار لمتعة وأن مرة واحدة من الحياة لا تكفي أبداً للعيش لأن كل مرة يحدث فيها التكرار يكون للإنسان ثمةُ خيارات شتى وطرق لم يسلكها أو حتى يلحظها بحيواته السابقة..
بيلا تار رأى أن العود الأبدى هو الحمل الأكثر ثقلاً على الإنسان وبذلك امتثل إلى ما وصف به كونديرا الإنسان المتشاءم وكيف سيرى العود الأبدي، تار وجد أن في العود الأبدي لمشقة لا تعلوها مشقة لأن الإنسان باختياره طريق المادية وسيادة العقل قد تخلى عن العاطفة وبذلك فإن العاطفة بدورها قد تخلت عن الإنسانية وتنحت عن الطريق ونتيجة لما سبق فإن تكرار الحيوات وتتاليها في كل مرة يزيد الإنسان ثقلاً...
بريسون يميل لبيلا تار أو بالأحرى للرؤية التي انحاز لها تار، فقد رأى أن الإنسانية ومع مُضيها في طريقها قد تخلت عن العاطفة وغرقت في وهم المادية لكن كان لديه ايماناً راسخاً بالعاطفة وسمو الروح وبقاءهم في العالم حتى لو تمثلتا في روحين معذبتين، -العاطفة والروح لا الإنسانية - فجعل بالزار وهو روح مغلوبة على أمرها تهيم في الأرض باحثةً عن شبيهتها وبمجرد تلاقي بالزار وماري يحتضنان بعضهما وكأنها قطبي الأرض يتلاقيان في سكينةٍ وتناغمٍ تام متولدة حولهما هالة العاطفة التي تُمثل الغاية الأسمى للروح، وكانت العاطفة التي وُجدت منذ البدء في تلك اللحظة قد تمثلت في ماري وبالزار...
بريسون تناول العود الأبدي من منظور أشمل بعض الشيء فهو لم يقتصره على أنه مجرد تتالي للحيوات بل جعل من العود الأبدي هو حلقات متتالية ولكن في نقطة ما قد تتلاقي تلك الحيوات مع بعضها ...
بحسب تأويل سابق قد سبق لي قراءته أن بالزار كان نبياً في حياته السابقة وماري هي النبي الحالي الذي بدوره يحمل ثقل البشر على منكبيه...
إن تلاقي ماري وبالزار هو أشبه بعملية مقايضة، بالزار يقايض ما حمله من ثقلٍ وعبء ومعاناة في حياته السابقة مع ما تحمله ماري من حملٍ وبذلك فإن عملية المقايضة هي بمثابة البوح أو الإفصاح وهذا ما يخفف حملهما وأيضاً يوحي هذا التلاقي بتطابق مصيرهما وحِمل الرسالة من بالزار إلى ماري ومداومة الجنس البشري في شروره..
إن رؤية بريسون سوداوية كمثل تار ولكن يكمن جمالها في أنها لم تجعل من العالم مكاناً يخلو من الرحمة والبوح..
العالم الذي يكتنفه حصان تورينو هو العالم بعد فناء الإنسانية واستمرار الإنسان المادي بالمضي في طريقه الذي يخلو من المعنى ولم يعِ أو يهتم مُعاصره بجوهره أو كينونته وبذلك فقدْ فقدَ روحه للأبد وتتالي الحلقات في دائرة مفرغة من الموت بلا حتى آلية الإختيار، فقد فنت تلك الرفاهية بالاختيار وتحولت الحياة إلى فروضٍ لا يحيد عنها من بقى للعيش وهذا ما أشار له كونديرا بالكيتش وهو حلم الكمال الكاذب المفرغ من الداخل..
حصان تورينو هو المرحلة الأولى من العود الأبدي وهي مرحلة ما بعد فناء نيتشة أو فناء الشفقة بالأحرى ومن تلك النقطة تبدأ الإنسانية بالزوال، إن عالم حصان تورينو هو عالم يكتنفه السواد ويحيط به من كل جوانبه ولم يجد الحصان فيه من يحتضنه ولا يسمع فيه الا بكاء السوط،
يستمر هذا العالم في تكرار نفسه مغلفاً بحياة ميتة لا شفقة فيها، وقد أشار كونديرا لهذا في روايته بأنه الطريق الذي تسلكه الإنسانية وتكمل خطاها فيه بدون نيتشه وتيريزا، إن هذا هو تقدم الإنسانية من خلال تصور الإنسان المادي المعاصر، ولكنه تقدم إلى بؤرة الهلاك.
تعليقات
إرسال تعليق