" صوت الجمال همساً يتكلم : أنه لا يتسلل إلا إلى الأرواح اليقظة "
- نيتشه
ينفرد فيلم المُرشد لتاركوفسكي بتعدد رؤاه ومرونته اللامتناهية في ذلك مقارنةً بباقي أقرانه من تجارب أندريه وصراعاته الدؤوبه...
فمثلاً عند تجريد أشخاص الرحلة من سياقهم الرمزي المباشر والذي يتمثل في العلم، الفن، الدين تتحرر تلك الشخصيات من كونهم مجرد أدوات تعاود نقل أفكار تاركوفسكي تجاه تلك العناصر التي قادت البشرية منذ بزوغها وتدُب الحياة بتلك الشخصيات معبرةً عن ما بداخلها من عواطفٍ وصراعات متحررةً أيضاً من تلك الرؤيا التي تحد من خيال ذلك العمل الفني..
إنه وعند تجريد هؤلاء الأشخاص من ذاك السياق يتجلى الصراع المتمثل في تلك التجربة بشكلٍ أسمى ويصبح صراعاً أزلياً مترسخاً منذ نزول بني أدم إلى الأرض..
إن شاكلة الرُسل الذين بُعثوا جميعاً لاهتداء البشرية إلى طريق الخير والسلام والحائل بينهم وبين أقوامهم كان إيمان هؤلاء الرسل بما هو وجداني، معنوي وروحي غير ملموس وأما أقوامهم بطبيعتهم فيميلون إلى ماهو مادي، مرئي ومحسوس وبذلك فإن كان هنالك صراعاً مترسخاً منذ البدء فهو الصراع المُتمثل ما بين ماهو وجداني ومادي...
في مشهدٍ غَلبت عليه التراجيديا يمسك المرشد بتاجٍ يشبهُ في تركيبه التاج الذي على رأس عيسى وهو مصلوب مُدعيا بكل كِبرٍ امتلاكه المغفرة والتي هي بدورها صفةً إلهية وبالتالي فإن في ذلك لتشكيكٍ في دوافع الرسل وحقيقة نواياهم فهل كانت تلك النوايا بدافع نشر الخير للإنسانيةٍ جمعاء أم أن في ذلك سعياً لإمتلاك السمو الإلهي والتقديس من قِبل من تداعوا أنهم بُعثوا إليهم؟
إن ما يدعم تلك الرؤيا هو تخلي المُرشد عن عالمه الواقعي، عن زوجته وابنته وعدم اكتراثهِ لهم ففي افتتاحية الفيلم ترتكز الكاميرا على وجه المرشد بعض الوقت ثم تبدأ التحرك ببطيء ليعي المُتلقي أن هنالك آخرون يعيشون مع المرشد ولكنه يظهر في البدء محوراً ومركزاً للأرض..
إنه لمن الطبيعي لمن يتخذ الروحانية منهجاً له أن يتخلى بدوره عن كل ما اكتسب صفة المادية في العالم ولكن هذا حتى فيه ما يشوبه من الأنانية وحب الذات ولكن في الأخير تصبح تلك رؤيا من منظورٍ ضيق ومحدود لمن لا يعون أهمية الجانب الوجداني ويميلون لكل ماهو مادي ولذلك كان الناسُ يلقبون المرشد بالمجنون الذي يسوقه الوهم...
جديرُ بالذكر أن تلك الشاكلة الأكبر لمعظم أشخاص تاركوفسكي فمثلاً في سولاريس وفي أكثر مشاهده شاعرية تلتف كل العناصر المادية حول البطل وحبيبته التي خلقها الوهم وكأنهم محور الكون وفي أكثر مشاهد الفيلم حميمية أيضاً وف النهاية يعود البطل فجأة إلى أبيه منتقلاً من الفضاء إلى الأرض في كل يسرٍ فقط لأنه احتاج ذلك أما في نوستاليجا فمخلصُ الأرض من شرها كان مجنوناً يحلم دائماً بنهاية العالم ولكنه في الحقيقة كان لديه من اليقين ما يقود البشرية نحو طريق الخير، أما في فيلم قربان وهو التجربة الأخيرة لتاركوفسكي فيمتلك البطل هبةً ربانية لم تُمنح سوى للرُسل وفيها من المعجزة ما يجعله جديراً بتخليص البشرية من خطر فناءها وعند فعله لذلك في النهاية يرونه جميع من حوله على أنه مجنون وينتهي به الأمر في مشفى المجانين وبالتالي فإن ذلك بدوره ينطبق على مرشد تاركوفسكي أيضاً وفيه من اللوم الكثير للبشر الذين لا يعون أبداً قوة وأسطورية الإيمان...
للغرفة الكثير من الرمزيات وجميعهم أقربون إلى الصواب ولكن إن اتخذنا المُرشد كمسيحاً فبالتالي تصبح الغرفة إلها غير مرئياً لا يراه سواه وفي المشهد الذي يرفض فيه من يرافقون المُرشد الدخول رمزيةً لما حدث عندما عُذب المسيح ونادى
" إلهي لماذا تركتني "
وبالتالي فإن الغرفة بدورها تنبذ المرشد هي أيضاً وتخذله وترفض دخول من يرافقونه و أما هو فلم يملؤه سوى خيبة الأمل وشعور النكران...
إن الصراع ما بين الوجدانية والمادية لا يزال قائماً وحاضراً وملموس بكل ما يحيط بنا ففي المشهد الأخير تقوم إبنه المرشد بالنظر لكوبٍ زجاجي مدعيةً أن لها القدرة على تحريكه يبدأ الكوب بالاهتزاز والسقوط، بالرجوع إلى مشهد الإفتتاحية يُلحظ قرب المنزل من رصيف القطار وبذلك فإن المنزل يتعرض لهزات متتالية عند عبور القطار وذلك هو المرئي والمحسوس وسبب سقوط الكوب الزجاجي..
إن ذلك ما يخلق الجدل وهو ذروة تلك التجربة.. فهل كانت الفتاة تملكُ قوى خارقةً حقاً أم أن ببساطة ذلك سببهُ القطار؟
- Stalker ( 1979 )
Directed by: Andrei Tarkovsky
تعليقات
إرسال تعليق