" السينما تتأثر، تؤثر وتغير بالواقع "
في فيلم قرن من الميلاد للمخرج لاف دياز يقول
" نستطيع أن نعيد خلق ذكرياتنا عبر السينما بل نستطيع حتى أن نبتدع ذكرياتنا الخاصة، السينما لها قدرة على استرجاع الماضي، عرض الحاضر والولوج إلى المستقبل "
بالاستناد إلى مقولةٍ دياز يتجلى تفرُد مثل تلك التجارب الثلاث وقيمتها.. في البدء لصانيعها ومن ثمَ إثراءاً لعبقرية السينما وقدرتها التي لا تقتصرُ ولا تكتفِ بالعرض ...
ففي فيلم الليلة الثانية لإريك باولز يُرثي باولز أمه عن طريق السينما بل ويُرثي السينما من خلالِ أُمهِ فينتقل إلى ماضيه مازجاً بين ذاك الماضي وحاضره، مازجاً بين السينما والواقع، فالواقع في أغلب الأحيان وبالأخص الماضي لا يمكن استرجاعه عن طريق الذكريات ولا حتى الصور، إن الحنينَ للماضي الذي يجتاح الإنسان في لحظةٍ شجن هو ما يجعل من الإنسان دائم الحُلمِ بآلة الزمن، وإن السينما هي آلة الزمن بالنسبة للمخرج فيتنقل بين أحلامه وماضيه بكل سلاسة مستحضراً ذكرياته، لمسها وتوثيقها وهذا ما يفعله باولز في الليلة الثانية فهو يستحضرُ ذاك الحنين الموجود بداخله، ذاك الحنين الذي يحمله كل إنسانٍ إلى ماضيه...
إن ما يخلقُ الرغبة والشغف عند مُتلقي الفن هو الرغبة العارمة تلك التي تجتاحه محتمةً عليه أن يخلق فنه الخاص، أن يعيد تشكيل ذكرياته ويجسد أحلامه، إن الكاميرا للمخرج كعصاة الساحر يخلقُ عالمه بها، يصوره كيف يشاء، وربما يكون ذلك دافعاً للبعض بأن يمتلكوا تلك القدرة الإلهية،
ويتجلى ذاك الشغف للفن، للسينما، للخلق في فيلم عن قرب لعباس كيارستمي مُتمثلاً في الشاب حسين سابزيان، إن حُسيّن هو الشغف الذي يملأ كل مُتلقٍ للفن ويكون دافعاً ورغبةً ومُحركاً لأفعاله والتي تقوده لأن يصبح مجرماً في نظر مجتمعه، وبذلك فإن عباس في فيلمه يصور الشغف والفن على أنه الشيء الأكثرُ إجراماً ولكن ذاكَ الجُرم قد نبعَ من الجمال، الحب ولا شيء سواه، إن فيلم عن قرب هو التجربة المُثلى في عرضها لأثرِ الفن على الإنسان وإلى أي مدى قد يدفع ذاك الفن الإنسان إلى الهلاك ولكنه وفي نفس الوقت قد يكون هلاكاً محبباً بالاستناد إلى بوكوفسكي عندما قال
"دع ما تحبه يقتلك "
أما في لحظةِ براءة للشاعر الإيراني محسن مخملباف فلا يكتفِ مُحسن بعرض ماضيه عن طريق السينما بل إنهُ يعطي السينما القدرة على التغيير الملموس في ماضيه وحاضره، إن ذاك التغيير الذي يحدثه محسن عن طريق فيلمه هو ما يُرثي القدرة اللامتناهية التي تمتلكها السينما والهبة الربانية التي يمتلكها المخرج، فمحسن قد نَدِمَ على طيشه في الشباب وبدوره يبحث عن السينما كحلٍ أخير كي يتخلص من ذنبه، إن التداخل الذي يحدثه محسن في تجربته بين الماضي والحاضر، الواقع والسينما هو ذروة العبقرية، هو ما يوضح الأثر الطاغي للفن، للسينما، تأثر الواقع بها وتأثرها بالواقع.. القدرة الحقيقية على التغيير التي يقف عندها الإنسان عاجزاً حين يجابه ماضيه ولا يسعه سوى الندم، فيصبح الفن بدوره فرصةً أخرى للتقويم..
إن ما يجمع بين تلك التجارب الحميمية هو صدقها، ذاك الصدق الذي نبع من ذاتيةِ صانعيها وتلك الذاتية هي بدورها ما تخلقُ عالماً خاصاً، عالماً منفصلاً عن الواقع والحلم وكما يقول أندريه تاركوفسكي فالشعراء هم من يخلقون عوالمهم الخاصة..
- Close-Up (1990)
- A Moment of Innocence (1996)
- The second night (2016)
تعليقات
إرسال تعليق