في عام 1924 نشر اندريه بروتون بيان السريالية الأول قائلاً
" على الفن أن ينبثق من اللاوعي وعلى الفنان أن يجد في الإيحاء الأكثر حرية صوراً حلمية وأن يميل نحو سريالية لا حدود فيها بين الواقع والحلم "
وكانت تلك شرارة البدء الفعلية للفن السريالي في الأدب والرسم يتبعهم السينما متمثلة في لويس بونويل وجيرمين دولاك وجان كوكتو...
أما حين يتألم الإنسان أو عند شعوره برغبة عارمة في البوح عن ما بداخله ولا يجد سبيلاً للإفصاح فإنه يلجأ إلى نبذ ما يشعر به عن طريق كبته، حينها ينذوي ويتدرج الشيء بكبته حتى يصل إلى اللاشعور أو منطقة اللاوعي عنده...
إن دور المحلل النفسي كما يراه فرويد هو المُعالج الذي بدوره يستحضر للمريض كل ما هو لا شعوري عنده وما هو غير واع له إلى منطقة الشعور والوعي وبذلك فإنه يبدأ بتحليل وتفكيك ما آلم الإنسان سلفاً ولم يستطع مواجهته أو الإفصاح عنه وتلك العملية هي أشبه بفرصة ثانية للمواجهة ولكن بمساعدةٍ راعٍ أكثر حكمة بعد فشل المواجهة في المرة الأولى..
يعتمد ذاك النهج في العلاج على مرحلتين أولهما الاسترجاع وثانيهم المواجهة..
ولا يختلف ذاك كثيراً عن نهج المخرج في السينما وماهية الدور الذي يلعبه..
إن المخرج كالمُعالج والمتلقي هو العليل الذي بدوره يفضي بأسراره وآلامه ومخاوفه لذلك المعالج وينتظر منه إصلاحها وإزالة آثارها، ولكن في السينما فتلك العملية لها وضع معكوس فالمعالج هنا هو في موضع الشاكي والمتلقي هو في موضع الطبيب ولكن المخرج(العليل) حينما يفضي بما لديه فهو بمثابة القول للمتلقي (أنا أتفهمك وهذا الألم أحسست به أو مررت به قَبلاً، وإن لم تستطع أنت أن تبوح به أو خجلت من أن تفضي به فأنا أعبر عنه عوضاً عنك ولذلك فأنا على وعيٍ تامٍ به ) وربما تلك الكيفية هي التي تقتضي من المخرج أو الفنان بشكل عام أن يكون صادقاً بل أكثر أقرانه من البشر صدقاً، مُضحياً في المقام الأول بنفسه عن طريق تعبيره عن كل ما يحويه بداخله حتى أكثر أفكاره بشاعة وشراً وهل هنالك بشاعة أكثر من تلك التي يحويها فون تراير
مثلاً؟ ويترتب على ذلك سؤال " هل هنالك من هو أكثر صدقاً وشفافية منه؟
بعبارة أخرى يصف تاركوفسكي ذلك فيقول
"إن الإبداع الفني يقتضي من الفنان أن يفنى بكل ما تحمله الكلمة من معني "
إن الإطمئنان الذي يبعثه صانع العمل للمتلقي يكون هو الميثاق والذي يقيس جدية هذا الميثاق هو صِدق صانع العمل في أفكاره، عواطفه، شكوكه وأحلامه... فإن كان صادقاً عُقد هذا الميثاق وأصبح المتلقي واعياً بآلامه ومخاوفه الخاصة التي لم يكن يعرفها قبلاً..
إن تلك العملية تشبه على سبيل المثال سؤال شخص لآخر عن ما يخافه ويكون رد الأخير بأنه لا يعرف حتماً ما يخيفه ولكنه فور مشاهدته ذئباً يركض نحوه فإنه يهلع ويشير إليه بإصبعه متهماً إياه بأنه أسوأ مخاوفه ولذلك فتلك العملية تقتضي من المتلقي عملية البحث عن ذاك المتنور الذي يشير إلى ضلالته التي لم يعيها قبلاً..
ولا يجب النظر إلى الفنان نظرةً ملائكية على أن غرضه الأول والوحيد هو هداية المُضل فقبل أن يلعب الفنان أو المخرج دور المحلل النفسي فهو يلعب قبله دور العليل الشاكي الذي يفضي بما بداخله كي يري في عيون غيره تلك النظرة التي تعبر عن تفهم ما أراد التعبير عنه وحتى ربما يتولد عند بعض الفنانين رغبةً أنانية خالصة في التعبير عن ذواتهم بدون أن يلعبوا دور المحلل النفسي ولكنهم وبرغم عزوفهم عن ذاك الدور فهم في النهاية يلعبونه بشكلٍ غير واع إن تم فهمهم عن طريق متلقٍ واحدٍ حتى، وطبعاً قد يستغل ذاك بشكل سلبيٍ في نهاية الأمر إن كان الفنان مضللاً أو مُدلساً وغير أمين وهو بذلك يلعب دوراً آخراً وهو المُنوّم المُغرض..
يترتب على ذلك أن يصبح المخرج محللاً نفسياً بدوره ولكن المخرج الذي يتمثل دوره في إبداء عواطفه وأفكاره الاعتيادية يقتصر حينها دوره على استحضار الشعور أكثر من استحضاره للاشعور
ونتيجة لذلك فإن صفة محلل نفسي تتوافق أكثر مع الفنان أو المخرج السريالي أكثر ما تتوافق مع أقرانه من الفنانين فالسريالية مبدأها الأول هو استحضار اللاشعور والغور في اللاوعي، تلك المنطقة الرمادية المتأرجحة بين الواقع والحلم التي يعجز العاديون عن وصفها وتصويرها في أغلب الوقت ولا يعني ذاك أن المخرج نفسه يصفها وصفاً دقيقاً وإنما هو فقط يقترب من وصف ذاك العالم ويحاول إعادة ترتيبة من جديد وإعادة الترتيب هنا لا تعني التسلسل في الوصف ولا حتى دقته وإنما تعني دقة صياغة ذاك العالم لجعله ممكن التصديق فحتى في أكثر عوالم السريالية غموضاً ك كلب أندلسي لبونويل فهو في النهاية إعادة خلق متقنة لعالم بديل تحدث فيه أحداث منافية للواقع وذلك ما يجعل من الفن السريالي حتى وهو في ذروة جنونه قابلاً للرصد والتحليل والتصديق، إن جعل اللاشعوري، اللاوقعي مرئياً، مسموعاً، ومحسوساً هو ميزة بذاتها بل ربما الميزة الكبرى التي تعطي للفنان الأفضلية عن غيره لبراعته في الخلق وجعل اللامعقول معقولاً عند رؤيته...
إن السريالي دائماً هو الأقرب لل لاوعي لأنه يبدأ بما فوق الواقعي يبدأ بالحلم الذي يعد منبتاً أصيلاً لل لاوعي ويرصد أشد مخاوف الإنسان وأكثر كوابيسه اثارة، ذروة الجنون بأفكاره ولا يفلح في تلك الكيفية إلا قليلاً من من صدحوا بخيالاتهم إلى أشد المناطق سوداوية وبغضاً في الإنسان وبذلك تذهب السريالية بعيداً عن الوعي وبعيدةً عن الشعور متجهة إلى منبع مخاوف الإنسان التي يخجل حتى من التفكير بها أو مجرد تصور وجودها فيه..
ويمكن تشبيه عملية التلقي بالتداعي الحر فبمجرد قبول المتلقي لشروط صانع العمل يصبح أسيراً للعملية الإبداعية وتفيض وتتوحد أفكاره مع التجربة مما يجعل منه حاضراً ويقظاً ومستعداً للخوض في أشد الأماكن المظلمة القابعة في عقله..
إن تلك الجرأة في العرض والرغبة الدائمة في التمرد التي تنتاب السريالي هي الطريق الوحيد لتعريف الإنسان بنفسه وحتى إن لم يقدم المخرج أو المعالج هنا حلولاً فبمجرد استحضار الشيء من اللاشعور وجعله شعورياً فلا ينقص العليل نفسه سوى الإجتهاد في مواجهته وهذه الفرصة الثانية في الآخير هي ما يوفره الفنان للمتلقي أو المعالج للمريض.
تعليقات
إرسال تعليق