يُحكى عن ملاك بإسم بالتازار قد سئم العيش في الجنة ولذلك فهو يُعاقب بالنفي إلى الأرض لمدة أربعة آلاف عام ليجد نفسه غارقًا في بؤسه ووحدته..
قد عُرف عن فيلم "Au hasard Balthazar" لروبير بريسون أنه عبارة عن إعادة صياغة لرواية دوستويفسكي الأبله ولكن يجهل البعض الكيفية التي أحيا بها بريسون رواية دوستويفسكي..
في البدء فإن بريسون لم يستقي من الرواية مباشرة بل اختار شخوصًا لم تكن حتى فرعية في رواية دوستويفسكي بل كانت هامشية لا تتعدى حتى سطورًا..
فماري مثلاً وهي بطلة فيلم بريسون كانت ذكرى تحدث عنها الأمير ميشكين (الأبله) في بضع دقائق أما بالتازار وهو الشخصية الرئيسية الثانية في الفيلم فكان مجرد حدث عابر في حياة ميشكين لم يدم أكثر من ثانية..
ربما يُخيل للكثيرين أن بريسون باختياره لماري والحمار أنه ابتعد بذلك عن جوهر الرواية ولكن ما حدث هو العكس فبريسون باختياره لماري والحمار يعطي تأويلًا أعمق لشخص ميشكين..
إن بريسون بجمعه لماري والحمار اللذان يتلاقيان بالصدفة ضمن عالمٍ واحد ومحدود هو التشخيص الأدق لما يقاسيه الأبله من معاناة فماري هي الإنسان المنبوذ الذي يقاسي الوحدة في عالم موحش، أما الحمار فهو انعكاس لإحساس الأبله بالاغتراب الدائم في عالم قاسٍ ومعتل ولذلك فإن نهقة الحمار في رواية دوستويفسكي كانت كوقع الصاعقة على أذنيْ ميشكين لأنه حينها وجد من يشاركه تيهه واغترابه..
ولم يكتف بريسون بذلك بل أعطي فيلمه بعدًا آخر خارج عالم الرواية ليصبح الفيلم تجربة مستقلة تتنصل شيئًا فشيئًا عن عالم الرواية فهو يعطي الحمار إسمًا ويطلق عليه بالتازار.. وبالرجوع إلى إنجيل متى نجد أن بالتازار هو إسم أحد المجوس الثلاثة الذين زاروا يسوع عقب ولادته وأهدوه الذهب والمر والبخور وكما يشاع فإن المر هو تنبؤ مستقبلي بموت يسوع بالإضافة إلى أن إسم بالتازار قد سبق وأن كان لملاكًا قاسى شعور الاغتراب في الأرض..
يرى بريسون أن ماري بضعفها ونزعتها الاستسلامية كالمسيح مبشرًا برسالة التسامح ولكن العالم في الأخير يخلو من الشفقة والعطف ولذلك فماري تشعر بالاغتراب ولا يشاطرها عذابها سوى بالتازار الذي لا ينتمي ميتافيزيقًا لذاك العالم ولكنه يشعر بمعاناة ماري ولذلك فماري عند احتضانها لبالتازار تلبسه تاجًا من الورود نسبةً إلى تاج الشوك وكأنهما يتقاسمان المعاناة..
إن احتضان ماري وبالتازار والتحام جسديهما هو ما يجعل منهمًا تجسيدًا لروحٍ معذبة واحدة لا تستطيع التماهي مع شر العالم ولا مجابهته حتى وكذلك كان أبله دوستويفسكي بطيبته فهي ملائكية لا تنتمي لعالم البشر ولذلك فقد كانت روحه
تعاني جراء الوجود نفسه..
تبعًا لذلك كان موت ماري هو تيه بالزار وضياعه التام,بجرح غائر يهيم في الأرض ليجد نفسه في الأخير مُحاطًا بالخِراف، محاطًا بالقطيع الذي يحكم سياسة ذاك العالم..
ويموت بالتازار وحيدًا، مجهولًا ومنبوذًا كما كان من البدء.
تعليقات
إرسال تعليق