تطغى على سينما أوروبا الكآبة أكثر من غيرها- يصفها البعض هكذا في أحيانٍ كثيرة بأنها هي منبع للقَتامة والأسى والبؤس..
فيلليني في كتابه يقول
"لديهم الإمكانيات ولدينا الخيال"
مُشيرًا إلى هوليوود، ساخطًا على إمكانياتهم بوضعه للخيال نقيضًا للإمكانيات وكأنهما لا يتلازمان.. قد تكون رؤية فيلليني موضحة للفارق الجوهري بين سينما أوروبا وهوليوود ولكن بالطبع قد يجتمع الخيال والامكانيات معًا فتتجلى تجربة بقيمة أوديسا الفضاء لستانلي كيوبريك، لكن الخيال الذي قصده فيلليني يذهب لأبعد ما تقتصره كلمة الخيال على معنًا..
ترجع استمرارية هوليوود في الأساس أو ريادتها لما يسمى عندها بال"جينرا" أي القدرة على تقديم أكثر من نوع سينمائي كالأكشن والكوميديا والفانتازيا والخيال العلمي وبالطبع كل تلك الأنواع ولتقديمها يلزم الامكانيات والتي لا يتم الرغبة بتقديمها إلا إذا كانت تجلب العائد- خاصية العرض والطلب في النظام الرأسمالي ولذلك فإن تلك الخاصية أكثر شيوعًا في ستديوهات هوليوود نظرًا لإيمانهم بالنظام الرأسمالي وبالطبع فأوروبا على النقيض فحتى لو تخلصت من الكثير من أوهام الماضي فهي لا تزال تملك بُغضًا مترسخًا لذلك النظام..
ذلك المنظور يرصد الجانب التجاري فقط في صناعة السينما نفسها والأساسات التي تقوم عليها تلك الصناعة بهوليوود وأوروبا ولكن هنالك بالطبع أبعاد أخرى تضمن الإنسان أو الفنان الأوروبي نفسه فهو يميل إلى التعبير عن ذاته الفردية أكثر من رغبته في رصد قضية مجتمعية أو الرغبة بإمتاع الجمهور وما يمنعه من ذلك ليس الجانب التجاري فقط بقدر رغبته القوية بالتعبير عن نفسه..
بالرجوع قليلًا للوراء ولفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية تحديدًا نجد انتشارًا واسعًا لتلك النزعة الفردانية في أوروبا- روسيا وإيطاليا وفرنسا وبولندا وحتى ألمانيا نفسها وأفلام متفرقة هنا وهناك في أنحاء أوروبا الشرقية رغبة في التعبير عن النفس، نبعت تلك الرغبة نتاجًا لجائحة الحرب والشبح الذي طارد أوروبا كلها وألزم فنانيها من جديد بالبحث عن جوهر الإنسان، رغباته الدفينة ونزعاته العدوانية كرغبة وأمل في تصحيح مسار الإنسانية من جديد وكرغبة خلاص من رواسب الحرب..
وتبعًا لذلك كانت الحرب العالمية الثانية لها النصيب الأكبر من اليقظة التي اجتاحت فناني أوروبا على مستوى السينما والأدب والفن أجمع لتتجلى صورة ما بعد الحداثة بعد انتهاء الحرب..
بالرجوع إلى الوراء وللحرب العالمية الأولى تحديدًا وما بعدها ظهرت في ألمانيا حركة سينمائية سُميت بالتعبيرية الألمانية، ومن سمات الحركة رصد لسيكولوجية المواطن الألماني أثناء وبعد الحرب فيظهر كعُصابي، مُتخوف يعاني من الهوس والبارانويا.. معتل ومتخبط في الداخل يتجلى كل ذلك في بضعة تجارب هي بمثابة تعريف ورصد دقيق لدواخل الإنسان وعلاته كما يظهر في
(كابينة الدكتور كاليجري- الضحكة الأخيرة- فاوست- نوسفيراتو)
وترصد معظم تجارب الحركة إنسان مشوه، مسخ نتج من الحرب دائمًا ما يعاني الهذيان وعقله أشبه بمتاهة بلا مخرج..
ولذا تعتبر التعبيرية الألمانية هي أول تعبير عن فردانية الإنسان وذاته وبمعنى آخر أنها هي من بدأت موجة الكآبة بسينما أوروبا وتلاها بالطبع الثورة البلشفية التي حركت مخرجي البروباجاندا السوفيتية وبعد الحرب العالمية الثانية الواقعية الإيطالية والموجة اليابانية الجديدة..
بالرجوع أيضًا للوراء رغبة في التوغل في داخل نفس فناني أوروبا فلا شك بأن الفلسفة كان لها نصيب كبير في التأثير على السينما فمن المخرجين مَن يحركهم الشك كبيرجمان ومنهم من يعاني الاغتراب ومن تحركه نزعته في فهم الوجود، منهم العدمي ومنهم من ينتهي بالعبث كحل أخير لمواجهة الواقع وبلا شك فإن كل مدرسة ونهج فلسفي يوجد ما يقابله في السينما متجسدًا في مجموعة مخرجين أو مخرج يتخذ من تلك المدرسة نهجًا له بالإضافة لعلم النفس وخصوصيًا تلك النظريات عن اللاوعي التي مكنت مخرجي فناني أوروبا من التوغل شيئًا فشيئًا في داخل النفس ومحاولة فهمها ونتاجًا لذلك نتجت المدرسة السريالية وقبلها كانت الدادائية التي كانت بمثابة ثورة الفنان على كل الثوابت وبالطبع فإن السينما تأثرت بما قبلها من فنون كالأدب كمادة أصيلة ومرجع ومن ثَم الرسم والموسيقى والمسرح..
بجانب الحروب والفلسفة فهنالك التاريخ نفسه فتاريخ أوروبا حافل بالنزاعات والأفكار وبالتالي فإن فنانينها في النهاية ملزومون بأن يحملوا ثقل كل تلك الأفكار التي لاحقتهم ويواكبوا تطورها ويبرزوها متجسدة في شخوصهم معبرة عنهم وعن تاريخهم ولذلك فأكبر ما يحركهم هو الأصالة والرغبة الصارخة في التعبير عن ذات معذبة كانت نتاجًا لوجود الإنسان نفسه وما لحق وجوده من أفكار وإن كان تاريخ أوروبا حافل بالصراعات فكيف لفنها أن يخلو منه!
أن يخلو من الكئابة والبؤس ويخلو من الرؤى السوداوية للحياة!
سيزيف مُجبر على أن يحمل الصخرة دائمًا.
من فيلم كابينة الدكتور كاليجري |
تعليقات
إرسال تعليق