في مسرحية هاملت لشكسبير كانت "أوفيليا" حبيبة هاملت فتاة حالمة، رقيقة القلب وصافية الوجدان، مخلصةً كل الإخلاص لحبيبها التائه بين قدره الذي يحتم عليه الثأر وبين تردده النابع من فطرته الخيرة..
وكانت أوفيليا ذات طابع شاعري لا تنتمي إلى واقعها المليء بالعنف والخيانة والمكر فبدت منفصلة عن عالمها وكأنها دخيلة عليه وتبعًا لذلك وُصمت أوفيليا بالعار حتى بدت في نظر الآخرين عاهرة من فرط حبها وإخلاصها..
كانت نهاية أوفيليا كما تم وصفها نهاية مأساوية لفتاة قد جُنت فأخذت تغني وترقص حتى كان مصيرها الموت غرقًا في المياة، ممسكةً بيديها بعض الزهور فتبدو وكأنها جزء من الطبيعة تؤول وتنتمي إليها في الأخير بروحها وجسدها، بكيانها كله..
دون كيشوت الفارس الحالم هو عجوز يُقال أن هوس البطولة اعتلاه من فرط تعلقه بمغامرات الفرسان التي روتها الكتب، فامتطى حصانه الهزيل وارتدى عتاده البالي وذهب كما يقال ليحارب طواحين الهواء مدعيًا وجود حبيبة وهمية له يهدي لها أمجاده..
وكانت نهاية كيشوت لا تختلف عن مصير أوفيليا فبعد عدد لا بأس به من الهزائم الشنيعة يعلن كيشوت عن ندمه الشديد الناتج من تعلقه بالوهم فيعبر عن أسفه لمن هم حوله لأنه أقحمهم بوهمه وحماقاته ومن ثم يغادر العالم..
بذلك يخسر العالم روحًا حرةً أخرى فهو يرفض وجود أمثال أوفيليا وكيشوت، لأنه بطبيعته يخلو من الإيمان ويرفض المعجزة وبالتالي فلا ينتمي ذوو البصيرة إليه ويبدون في نظر غيرهم كمجانين يسوقهم الوهم..
في فيلم متاهة بان للمخرج الأسباني ديل تورو يحكي في البدء عن أميرة تاهت عن عالمها وذهبت إلى عالم البشر بداعي الفضول وفيما بعد يرصد حياة فتاة تسمى بأوفيليا تعاصر بدورها فترة الحرب الأهلية الأسبانية..
أوفيليا هي طفلة مُتيمة بالكتب كما تظهر في البداية وتصحب كتبها معها أينما ذهبت كما يظهر فيما بعد، تؤمن بوجود الجنيات والعالم الماورائي، يحركها الفضول والرغبة الدائمة في الاكتشاف..
العالم المحيط بأوفيليا هو عالم لا يخلو من القسوة، والشر محيط بكل أركانه ولذلك فأوفيليا بدورها تكره ذاك الواقع وبالتالي تلجأ لخلق عالمٍ بديل تصوغه هي كما في حكاياتها وتكون هي مِحوره وبطلته فتلجأ للمتاهة التي تُعبر بدورها عن الإنفصال الميتافيزيقي لأوفيليا عن عالمها وفيها تكون بداية ولوج أوفيليا لعالم الخيال ومصيرها المحتوم أيضًا..
تتشابه نهاية الطفلة أوفيليا مع أوفيليا شكسبير فيكون الموت هو مصيرها بداخل متاهتها التي اعتبرتها بدورها مدخلًا لعالم الخيال وبذلك تنتهي إلى ما انتمت له في البدء ولا تختلف تلك النهاية أيضًا عن نهاية كيشوت فحياته تنتهي بسبب فرط خياله ومن ثم سلبه منه في الأخير من قِبل من حوله وعدم تصديقهم له ويرجحون أن سبب موته هو إيمانه المفرط بالكتب..
يتبنى الروسي أندريه تاركوفسكي أيضًا رؤية دون كيشوت للعالم فنهايات أفلامه دائمًا ما تؤول إلى رصد الصراع القائم بين المادة والروح ولذلك فأشخاصه دائمو الإيمان بالمعجزة، منبوذون مِن قبل كل من حولهم والمَخرج دائمًا يكمن في الإيمان فكما يتجلى في نهاية فيلمه المُرشد على سبيل المثال تظهر الفتاة وهي تحرك كوبًا عن طريق النظر إليه، من يؤمن بالقوى الماورائية سيصدق الفتاة ومن يؤمن بالمادة فسيرى أن تحرك الكوب ناتج لتحرك القطار خارج المنزل، أما نهاية فيلم تاركوفسكي الأخير تضحية يتجلى فيها أن الإيمان بالمعجزة هو من سيجعل الشجرة الجافة تثمر يومًا ما، كذلك كانت نهاية فيلم ديل تورو فمن يؤمن بالمعجزة سيرى أن رؤى الفتاة كانت حقيقية ولم تكن أبدًا مجرد خيال..
ويختتم ديل تورو فيلمه بنهاية سعيدة معقبًا على حكاية الفتاة بقوله
"وتركت خلفها أثرًا صغيرًا من زمانها لا يراه إلا من يعرفون أين ينظرون"
-Pan's Labyrinth (2006)
Directed by: Guillermo del Toro
تعليقات
إرسال تعليق