بطبيعةٍ الحال أن الإنسان يملكُ كماً هائلاً من المشاعر، إن لم يفصح عنها تراكمت بداخله مسببةً ألماً دفيناً، إما أن تكون سبباً للموت البطيء وإما أن تكون مُحركاً للعنف أبدَ الدهر، عند إنجمار كانت تلك التراكمات هي الطريق لفنانٍ حالم، كان طفلاً وحيداً وهائم، حالماً وشغوفاً ولكن من حوله قاموا بكبت مشاعره، حُرِم عليه أن يبكى فكان عنيفاً مع زملاءه، متمرداً بطبعه، ماقتاً للجميع... وعندما يلجأ الإنسان لكبت مشاعره يبدأ بالتعبير عنها جميعها عن طريق الغضب ويكون الغضب جلياً في أفعاله كالطفل الذي يوبخه الكبار فيلجأ لكسر لعبتهِ المفضلة.. إنجمار لجأ لكسر لعبته المفضله وهي الفن.. مُتخذاً ما قاله أيزنشتاين يوماً ما نهجاً له وهو " تمكن من الفن أولاً ثم حطمه" إنجمار كان أشبه بالوعاء الذي إمتلئ بالماء المقدسِ على مر سنين ولكن هذا الماء تراكمت عليه شوائب لا تحصى، لكن هل تخفي الشوائب ما كان مقدساً يوماً؟
على مر السنين حوى هذا الوعاء الكثير من المشاعر الإنسانية التي تم كبتها لتخرج متفجرةً دفعةً واحدة وكأنها بركان ثائر قد خمِدَ لعقود.. بركانُ قد امتلأ بالتساؤلات وعانى من الفقد وكانت ضالتهُ هي الفن..
قد يصل الإنسان يوماً ما إلى تحطيم ما أحبه ولكن يعزُ عليه أن يكون ما أحبه هو في الأساس علِتهُ، بيرجمان لم يأبه بل بدأ بالتحطيم كمجرمٍ لا يملك ذرةً من الرحمة.. كان التعبير في سينما بيرجمان بمثابة التحطيم.. تحطيم الشوائب التي ملأت هذا الوعاء رغبةً في إحداث فيضانٍ عن طريق ما بالوعاء من ماء...
كانت المشاعر في سينما إنجمار هي الحلول، حلولِ خارجةً عن السياق غير أبهٍ بما يحويه النص وغير مكترثة بما يؤله البشر إلى المنطق.. إنها كيفيةُ شاعرٍ ياعزيزي..
في فيلم عبر زجاج مظلم كان الأبُ ساخطاً على مرض ابنته النفسي لكن حين يجدُها مشتتة وهشة يحتضنها بكل ما ملكَ من حنان قائلاً لها " عزيزتي الصغيرة ما خُطبك؟ "
برغم أنه يعرف تمام المعرفة ما كانت عليه إلا أنه أراد منها الإفصاح ليبردُ قلبها.. ذكرني بشاعرية ديستويفسكي في روايته الأولى الفقراء عندما كان العجوز الهرم يخاطب الشابه الفقيرة الحالمة قائلاً لها " أُميمتي" أملاً تحقيق جميع رغباتها.. كم كانت هذه الكلمة لها من الأثر بداخلي ما لمطرقةٍ مغلية على قطعة من الحديد الصدأة.. وما تلبث المطرقة بلمس قطعة الحديد حتى تنصهر الأخيرة بدورها وتذوب... وكأنها المُفرد الوحيد الذي وُجد في الحياة ليعبر عن ماهيةٍ الحب...
أما في ضوء الشتاء وحينما يصل الشك ذروته عند القِس لم يكد يتماسك حتى سقط على الأرض وكأنه سقوطُ للهاوية بلا رجعة.. لم يجد ملجئاً له سوى أن يُحتضن وكأن المعاناة التي لزمت عقل القِس طوال حياته لم يكن العقل هو مسعفها بل كانت المشاعر هي المُخلص لها، كان الإفتقار إلى الحب هو العلة..
إن الإنسانَ كالطِفل في احتياجهِ، وهذا الطفل لا يفرقُ بين قريبٍ وبعيد.، هو فقط يحتاج..
أما الأمومةُ فهي غريزة نابعةً عن الحنان المتأصل بداخل المرأة... تُوجه المرأة الأمومة إلى كل من فقدها بداعي الحنان، الحنان فقط لا الحب أو الشفقة.. وفي صرخات وهمسات تعاني الأخت الكبرى من المرض ولا يُسعَفها أحد من أخواتها.. لتظهر من بعيد عاطفةً الأمومة الجياشة في شكل خادمة ليس لها من الأمرَ بشيء.. وكلوحةٍ بألوانها الدافئة تطغى.. تحتضن الخادمة الأخت الكبرى وكأنهما أمُ وطفلتها.. أمُ تحتضن ما منها وتضمها إلى صدرها منبعَ كلُ الحنان وأما ذات الملابس الطفولية فتهدأ بعد ما لبثت من الوقت تبكي وتصرُخ.. لحظات معدودة من تجلي المشاعر يصاحبها الإستسلام التام...
إن البوح عن ما يحويه الإنسان من مواقفٍ أو مشاعرٍ يخلصُ القلب من ما عليه من أثقال، وبمجرد البوح يشعر الإنسان بأن ثُقل روحه قد زال وبأنه بات متصالحاً مع نفسه أكثر.. وقد يريحُ الإنسان أن يبوح بما يحويه إلى أحدٍ غيرَ نفسهِ أكثر من نفسه.. في بيرسونا ينشأ بين الممرضة والمريضة صداقة، منبع هذه الصداقة وأساس نشأتها كان البوح، البوح بما بداخل كلٍ منهما من مواقفٍ وأسرار.. وبعد البوح عن أسرارهما ومخاوفهما يميلان على بعضهما متحدتين وكأنهما رأسان لجسم واحد، وكان البوح هو سر هذا الإنسجام وهو في الأخير ما يجعل الإنسان قريباً من أقرانه من البشر..
بيرجمان خلال الأمثلة السابقةٍ ذِكرها.. يرثي المشاعر وقيمتها، يضعها كحلول ويجسدها كمُخلصٍ أخير لمن لا مُخلصَ له... الأبوة، الأمومة، الصداقة، الحب.. كلها مسميات وضعها بيرجمان ليسرُد من خلالها جميع ما عانى به من فقدان، فقدان للحب وفقدانٍ للحنان وفقدانٍ للمعنى، فقدانٍ تام قد تم تعويضه من خلال الفن، فالفن هو مرآة صاحبه ومن خلالها يعكس ما أراد قوله دائماً ولم يستطع التعبير عنه يوماً...
محبتي لبيرجمان الشاعر والإنسان قبل المخرج والكاتب، عزائي لما فقده ورثائي لما عوضه بالفن.. ولروحه السلام..
تم النشر بتاريخ 14 يوليو عام 2019
ذكر شااعرية ديستوفسكى.. وهو يخااطب الخاادمة بأميمتى.. فكرني بروااية الام لمكسيم غوركى.. اللى مأخوذ منها فيلم الأم لبودفكين.. كاان اندريوشا " صديق ابنها " بيناديها أميمتي.. وكاانت العلاقة بينهم من الطف العلاقات في الروايات.. لانه كان يتيم.. وابنها كاان الكفااح مع العماال وااخد كل طااقته.. لدرجة انها قالت لاندريوشا انا بعتبرك ابني اكتر منه...
ردحذفوحقيقي تسلم علي المقال الجميل داا..
غوركي عظيم ومشكور على ذوقك، فيلم بودفكين من علامات السينما وبودفكين شاعر لم يأخذ حقه بعد
حذف