إن "التَثاقُل" هو من أهم ملامح سينما المجري بيلا تار، والتثاقل عند تار لا يقتصر على كونه مجرد تثاقل سردي في محاولة لخلق صورة شعرية أو هو مجرد محاولة هشة لمحاكاة الواقع..
إن التثاقل في سينما ييلا تار هو انعكاس لصيرورة الكائن البشري والحياة؛ فالحياة كما يراها بيلا تار توقفت بدورها عن المسير ولذا فهي يشوبها انعدام الروح فيتوقف فيها الإنسان عن السمو ويصبح بدوره كائن مادي، استهلاكي منعدم الإرادة في المسير..
يتجلى ذلك التثاقل بالفيلم الأخير لبيلا تار وهو حصان تورينو، إن تار لا يكتفي بمحاكاة فلسفة نيتشه عن العود الأبدي بل يعطي فلسفة نيتشه بعدًا آخرًا بما يخدم رؤيته هو كمخرج في تصوره للحياة؛ فيرى تار الحياة مشوبة بالتثاقل ويكون التباطؤ هو نهج، ليس نهجًا للوقت الذي يرفض المسير فحسب بل يكون التباطؤ هو نهج جميع الكائنات فيعلن الحصان نفسه عن تمرده كما يعلنه الإنسان أيضًا فيشوب حياته الروتين الذي يكون عبدًا له بدوره..
Turin horse |
لا يختلف التثاقل والملل بالمعنى الحرفي الذي يظهر بافتتاحية "تانغو الشيطان" والذي يستمر ل 20 دقيقة متواصلة يعرض فيها تار مشهد لمجموعة من الأبقار مستمرة في المسير عن مشهد لمسيرة مجموعة من البشر في فيلم "تنغامات فيركمستر" وهم في طريقهم للمشفى، إن الخراب الذي يخلفه البشر وهم في طريقهم للمشفى لا يختلف عن الفوضى التي تخلقها البعير أثناء المسير في افتتاحية تانغو الشيطان، فهو تطابق جوهري يتشارك فيه الإنسان والحيوان معًا وليس التطابق منبعه اختلال أو غياب العقل فقط بل تعبر تلك المسيرة بوجه عام عن تسليم وغياب الإرادة عند الإنسان فيكون منقادًا إلى مصيره كالبعير، متداعي ومستمر في تداعيه إلى الهاوية متخليًا كل التخلي عن حريته، وكما يظهر في مشهد التناغمات حينما يخلف البشر الفوضى في طريقهم فهم لا يختلفون عن البعير وهي تخلف الطين عند مرورها، ويبدون كفاقدي للإرادة، كمجموعة من الأموات الأحياء..
Werckmeister Harmonies |
ربما أكثر ما عبر عن ذلك التثاقل الذي يعتري سينما بيلا تار هو مشهد الفتاة الصغيرة في تانغو الشيطان وهي في طريقها لإنهاء حياتها، إن الذي يعطل حركة تلك الفتاة ويعوقها عن المسير لا يبدو وكأنه مجرد عدم قدرة على السير، فتعثُر الفتاة وتباطؤ حركتها هو إنعكاس لتردد جوهري في داخلها، هو انعكاس الداخل على الخارج فالكسر المعنوي بداخل الفتاة ينعكس على حركة أطرافها أثناء المسير بل ويتجلى في عينيها المتحجرة، هي ترى مصيرها وفي نفس الوقت فهي تحمل ثقل القرية التي يشوبها الخطيئة، هو ثقل حال العالم أجمع فهي تحمله بداخلها وتقدم نفسها قربانًا أملًا في تخليص ذلك العالم، إن الضمير هو الذي يفرض على شخوص تار ذلك التثاقل فهو يحتم عليهم السير عنوة إلى مصيرهم المحتوم وهو أيضًا الذي يحتم على البشرية جمعاء السير إلى الهاوية، فالضمير والإحساس بالذنب هو نتاج للدم الذي لطخ بدوره التاريخ البشري فيحتم عليهم الإحساس بالذنب، إن الدم والعنف هو وصمة في التاريخ البشري كتلك الوصمة على أيدي الليدي ماكبث، وربما ينادي تار في مشروعه بالتخلص من تلك الوصمة فهو يراها سببًا لذلك التثاقل ولكنه يرى أنه للتخلص من تلك الوصمة وفي حالة إحياء البشر للضمير فلا طريق للخلاص غير الموت.
أزال المؤلف هذا التعليق.
ردحذفاستمتع كثيرا بقراءة تدويناتك حول السينما يا حسن كل الحب و الاحترام لك
ردحذف