حنين- نوستاليجا
Nostalgia هي كلمة يونانية الأصل
وهي منقسمة لشقين
الأول "Nostos"
ويعني العودة للوطن
والثاني
"Algia"
..ويعني الألم
لتصبح الكلمة معناها
"الألم المرافق لرغبة العودة إلى الوطن"
نشأت تلك الكلمة اليونانية نتيجة التأثر بملحمة الأوديسا لهوميروس وفيها يقاسي بطله أودوسيوس- عوليس مرارة البعد عن الوطن..
في ملحمة الأوديسا وبعد حرب طرواده يغضب بوسيدون"إله البحر" بسبب فقأ أوسيوس لعين ابنه، فيعاقبه بالتيه في البحر لمدة عشر سنوات، منها سبع سنوات مع كاليبسو"حورية البحر" ليتحرر
من سطوتها أودوسيوس في الأخير عازمًا على العودة لوطنه..
تطور مفهوم النوستاليجا مع الوقت لا ليعبر ويقتصر على مجرد الرغبة في العودة إلى الوطن والحنين إليه، بل لتصبح الكلمة مفهومًا شاملًا، لكل ما يحن ويتوق إليه الإنسان ولا يستطيع الوصول إليه، لمسه أو الإتيان به، فاقترن المفهوم بصورة الماضي نفسه، بما يشمله من عواطف ومشاعر محاها الزمن، حنين للذات القديمة، وحنين لزمن لم يعشه الإنسان، ولو كان حُلمًا، وبرغم ألم الشعور بالحنين إلا أنه مقترن بالدفء حتى ولو كانت تلك المشاعر موجهة إلى أشياء غادرت بدورها، أو كانت حتى أشياء لم يختبرها الإنسان بعد.
تأثر الكثير من المخرجين بالملحمة، بتيه آودوسيوس بالذات ورحلة عودته، ربما البعض منهم ابتعد عن مفهوم الحنين، فتركز تناوله على شعور الاغتراب بعد العودة للوطن
كما يتناول المخرج التركي نوري جيلان في فيلمه
"Uzak"
بطله محمود الذي يقاسي الاغتراب في بعده عن بلدته، يحن إلى نفسه المفقودة، التي لا يعرفها بعد الآن، فمحمود من فرط تناسيه لذاته تحول لشخص متبلد، متخوف من كل شيء، وهنا يرصد جيلان آثار البعد عن الذات، وإلى ما تؤول إليه من بعد واغتراب عن كل شيء، وعزلة موحشة يتآكل صاحبها بمرور الوقت.
كما يوجد تأثر واضح باللوحات التي حاكت لقاء كاليبسو بأودوسيوس، في مشهد لقاء سنان بخديجة
بفيلم شجرة الكمثرى البرية، وفي المشهد يحاكي جيلان محاولة إغواء كاليبسو لأودوسيوس، فهو لقاء تغلب عليه الرغبة، كما يعاني بطل الفيلم أيضًا من الاغتراب في وطنه، فهو اغتراب نبع من الفساد المجتمعي، والديني المتغلل بداخل بلدته ونتيجة لذلك يكون سنان مقموعًا، كما تظهر خديجة أيضًا كضحية لذلك القهر المجتمعي، ليضطر كل منهما أن يكون شخصًا غير ذاته الحقيقية.
لقاء سنان بخديجة والتأثر باللوحات التي تحاكي لقاء أودوسيوس بكاليبسو |
تأثر بفكرة الاغتراب أيضًا المخرج الروسي
"Andrey Zvyagintsev"
"The return"في فيلمه
وفيه يتناول عودة أب لأبناءه وزوجته بعد هجرانه لهم لسنين طويلة، ويعرض زيفجانتسيف معاناة الأب في التعامل مع أولاده
وزوجته، وقسوته الظاهرة التي يظل سببها مجهولًا..
ويبدو الأب هنا كمُخلص يساء فهمه، يرجع ذلك بالتأكيد للمجهول الذي قاساه الأب طوال غيابه، فلا يعيه كل من أولاده وزوجته،
ونتيجة لذلك تحدث الكارثة، وذلك يفسر الجفاء والتبلد اللذان اعتليا الأب في غيابه، وانقطاع تواصله مع العالم الخارجي، حتى مع أقرب الناس إليه..
أيضًا تم تناول الأسطورة بشكل كوميديا سوداء عن طريق الأخوان كوين في فيلمهما
"O Brother, Where Art Thou? "
وتبدأ العقدة بعد هروب الإخوة من السجن ومحاولة الوصول لكنز خفي، ويتبع الفيلم تيمة واقعية سحرية متأثرًا بالأوديسا ومتخذًا
أبعادًا أخرى تبدأ بالرغبة في الاكتشاف ..
أما عن أكثر المتأثرين برحلة الأوديسا فهو المخرج اليوناني ثيودور آنجيلبولوس ، فالتراجيديا اليونانية لثيو هي بمثابة تراث
خاص يعتز به ولا يكف عن محاكاته في كل تجربة له..
ظهر التأثر المباشر لثيو بالأسطورة في اسم فيلمه
"Ulysses' Gaze"
وهو عن مخرج مغترب يعود إلى وطنه محاولا البحث عن تراث سينمائي مفقود، وهنا ثيو في فيلمه تحديقة عوليس لا يهتم بمحاكاة الأسطورة بقدر اهتمامه بشغفه وهو السينما والتراث، والتأريخ، ولا يعني ذلك إهمال ثيو للأسطورة، لأنه وفي كل فيلم له لا ينفك عن محاكاة الأوديسا، فشخصيات ثيو هي دومًا شخصيات تعاني التيه والفقدان، وتبحث بدورها عن الملجأ، عن العودة، تقاسي الحنين والفقد، وتحلم بأبدية لامتناهية، إن كل فيلم لثيو هو بمثابة أوديسا جديدة، وفي كل مرة موضوع جديد، وعالم لابد وأن يعاني أبطاله الحنين، الحنين إلى أب ضائع، إلى رمز، إلى حبيبة كانت في الماضي وإلى موطن خيالي وأبدي..
من فيلم الأبدية ويوم واحد |
وربما أفضل محاكاة لعودة أودوسيوس هو فيلم المخرج الإيطالي فرانكو بيافولي باسم
"Nostos :The return"
هو فيلم خالي من الحوار وفيه يبدأ بيافولي بحرب طروادة، ولا يعرض الحرب وإنما يكتفي بشريط الصوت، للتعبير عن قسوة الحرب وآلامها، إن فيلم بيافولي هو ككل أفلامه، فيلم يتغنى بالطبيعة، يتعامل مع الصورة كلغة، كوسيط شعري، وتصبح تجربة غير مقتصرة على رحلة أودوسيوس في العودة إلى وطنه بل هي عودة الإنسان للمنشأ، لجنته المفقودة، وإلى حيث ينتمي..
تناول مختلف لملحمة الأودوسيا وتلك المرة عن طريق الثاقة اليابانية في فيلم
"Ugetsu"
للمخرج الياباني الكبير كينجي ميزوغوتشي، تجربة ميزوجوتشي مقتبسة عن حكايات من التراث الياباني ولكن بالطبع فإن تلك الأساطير تأثرت بالميثولوجيا اليونانية، كعادة كل التراجيديا..
يتناول فيلم ميزوجوتشي بالتحديد قصة إغواء كاليبسو لآودوسيوس، ولأن طبيعة فيلم ميزوجوتشي تركز على نقد الطمع الإنساني، وجشع البشر في الحروب، وأن ذلك هو ما يودي بهلاكهم، فكاليبسو تصبح أميره تغوي البطل بجمالها وثراءها، والذي يكتشف البطل زيفه بعد زمن، ليجد أنه في النهاية كان أسيرًا للوهم، ويقرر التملص من ذاك الوهم والعودة إلى وطنه وزوجته، وهنا يعطي ميزوجوتشي بعدًا آخرًا للأوديسا، وأكثر واقعية، وهو ماذا لو عاد
أودوسيوس للوطن ولكن بعد فوات الأوان؟
وكأن ميزوغوتشي يختار لبطله العذاب الأبدي، وأن يبقى أسيرًا للوهم كحكم عادل ومنصف نتيجة جشعه..
المخرج اليوناني ثيو آنجيلوبولس في لقاء معه حكى عن لقاءه بالمخرج الروسي آندريه تاركوفسكي، أثناء إقامته في نفس الفندق مع تاركوفسكي وكاتب السيناريو آنتونيني جويرا، أثناء صناعة تاركوفسكي لفيلم نوستاليجا في إيطاليا، ويحكي عن الخلاف الذي دار بينهما حول أصل كلمة
"Nostaliga"
فتاركوفسكي كان يظن أنها كلمة روسية الأصل ولكن آنجيلوبولوس كان متأكدًا أنها كلمة يونانية الأصل..
لم يقتصر حنين تاركوفسكي على أن يكون مجرد اسم لفيلمه قبل الأخير، الذي يتحدث فيه عن ألم البعد عن الوطن..
فسينما تاركوفسكي دائمًا ما كانت تنادي بالعودة للذات، وتحلم بواقع خيالي، نقي وبريء، يظهر ذلك في كل المواضيع التي تناولها تاركوفسكي، خاصة في فيلمه طفولة إيفان الذي يحن إلى زمن ما قبل الحرب، حيث البراءة والحرية، وفي فيلمه سولاريس حيث الحنين إلى الذات، والرغبة في التحرر من سجن العقل وأفكاره،
ويظهر ذلك حتى بتأثره المتكرر بلوحة الصيادون في الثلج لبيتر بروغل
فهي تنتقد الحداثة والحرب وتنادي بالعدة للمنشأ والبساطة..
ويتجلى التأثر الكبير لتاركوفسكي بمفهوم الحنين في فيلمه قبل الأخير
"Nostaliga"
ففيه يحن تاركوفسكي إلى وطنه البعيد عنه، بعد منعه من صناعة الأفلام فيه، ويحن أيضًا إلى مخلص، يحلم بأنه سيخلص العالم من شروره، فيحكي عن معاناة شاعر وثوري فقد كل منهما نفسه، لينهي تاركوفسكي فيلمه بمحاكاته لوحة آندريه وايث"عالم كريستينا"
حيث المنزل أمام كريستينا لكنها عاجزة عن الوصول إليه، كذلك بطل تاركوفسكي يبدو عاجزًا عن الوصول، ولكنه يعطي البيت ظهره، وكأنه قد تجاوزه واستحالت فكرة العودة إليه، وهنا يختار تاركوفسكي الواقع وينبذ الحنين، ليستطيع المواصلة، وكأن الحنين
.هو عائق عن مواصلة الحياة.
عظيم يا حسن حقيقي
ردحذف