في "أحمر" كيشلوفسكي، وقرب النهاية، يطلب القاضي المتقاعد من الفتاة "ڤالنتين" رؤية تذكرة سفرها، يعطيها القاضي التذكرة بينما يبدو عليه نظرة خوف من شيء ما مقبل على الحدوث.
يظهر القاضي المتقاعد في بداية الفيلم وهو منعزل تمامًا عن العالم الخارجي، يتجسس على الآخرين، يتنبأ بمصائر البعض، وترى ڤالنتين ذلك فعلًا سيئًا...
من البداية، يهيمن على عالم الفيلم جو من الغموض، في كل لحظة هنالك ترقب لشيء ما مقبل على الحدوث، توتر مستمر - متخفي على استحياء- يمهد لحدوث كارثة.
شخصية القاضي في الفيلم هي شخصية من خارج العالم؛ من خارج الواقع تحديدًا، ولذلك فالقاضي دونًا عن البقية هو "الصِلة" بين العالمين؛ الواقعي، والمتخيل/ الما ورائي، ولذلك يبدو القاضي أحيانًا هو يد القدر/ الملاك الحارس، ملاك الموت المتيقنة من مصير البطل في "انقطاعات الموت" ولكنها تتمرد على ذلك المصير، حبًا في البطل وإيمانًا به، ولذلك يحاول القاضي هنا بطريقة ما إفساد تلك المنظومة، أو منع تحقيق ذلك المصير المشؤوم.
يتبين ذلك من معرفة القاضي المسبقة ببعض الأمور، أو محاولته لوي عنق القدر بطريقة ما، مثل ترك كلبته"ريتا" فتعيدها ڤالنتين إليه، يطلب منها أن "تترك الباب مفتوحًا" هو موقن بعودتها، أو بطريقة أخرى هو يأمل عودتها.
في مشهد في منتصف الفيلم وبينما يتجسس القاضي على مكالمة ما غرامية، نعرف أنها بين الشاب " أوجست" وحبيبته، يخبر القاضي ڤالنتين أن تلك العلاقة لن تكتمل، تسأله ڤالنتين : لماذا؟
يجيبها : هكذا فحسب، مبديًا سببًا واهيًا.
قرب النهاية يتكشّف سبب تنبؤ القاضي بذلك الأمر، ويتبين الجانب الإنساني في القاضي المبتعد شيئًا فشيئًا عن كونه يد إلهية أو أنه متيقن من أي شيء، هو فقط متخوف من طبيعة الحياة الدائرية، التي تبدأ حيث تنتهي، وتنتهي من حيث بدأت
( هو إيمان مسبق لدى كيشلوفسكي، واضح في أفلام سابقة له
"No end" , "Blind chance" )
ومن خلال حكاية يحكيها القاضي لفالنتين نعرف أن ظروفه في الماضي تشابهت مع ظروف ذلك الشاب، لقد خانته حبيبته، ثم ماتت في رحلة مشابهة للرحلة البحرية التي ستذهب فيها ڤالنتين، حينها لم يعد يؤمن بالحب.
بشكل ما يرى القاضي في ڤالنتين حبيبته السابقة، ولذلك فهو متخوف من تعرضها لنفس المصير، وهذا ما يفسر قلقه الدائم حين يراها، شفقته التي يحاول مداراتها، استجابته لرغباتها، كما نرى بعد طلبها منه أن يتوقف عن التجسس. كما هو الحال مع الشاب "أوغست" يراه القاضي انعكاس له، نفس الظروف، ونفس الفقد، ولذلك هو مستمر في الاهتمام بأمره.
في بداية الفيلم يسأل القاضي ڤالنتين، هل تساعدين الناس بداعي الاهتمام بأمرهم، أم هي مجرد رغبة داخلية في الشعور بالزهو والرضا عن النفس، سؤال القاضي لم يكن لڤالنتين، أنما كان لنفسه، فهو في محاولته التجسس على الأخرين هو يحاول بشكل ما المساعدة، أو على الأقل تقديم الرثاء، شعورًا منه بالذنب الذي اقترفه وهو الحكم بالذنب على البعض، بينهم الرجل الذي أخذ حبيبته منه، رغم اعترافه أن حكمه عليه كان قانونيًا، إلا أنه موقن أنه كان غير أخلاقي.
في نهاية الفيلم تتشابك الأقدار، الشاب "أوغست" والفتاة "ڤالنتين" في تلك الرحلة البحرية، يمهد كيشلوفسكي للحادث المحتوم، تتحطم السفينة نتيجة الإعصار ويتعرض ركاب السفينة للموت ما عدا سبعة أشخاص، بترقب يتابع القاضي نشرة الحادثة، بطمأنينة أخيرة - وأبدية- يجد القاضي فعلًا مغايرًا يكسر تلك الدائرة، ڤالنتين بخير، مقتربة من أوغست، وكأنه تنبؤ بقصة حب بينهما، المفارقة أن أوغست وڤالنتين كانا جاريّن في نفس الحي، يراقبان بعضهما من بعيد، لم يتحدثا ولا مرة، ولكن يجمعهما ذلك الحادث المروع، في صدفة قدرية غريبة، يؤكد من خلالها كيشلوفسكي على طبيعة الحياة، منظوره لها، وبشكل ما يصالح القاضي المتقاعد عن العمل، بأن تلك الدائرة لن تتكرر، وهذا ما يجد فيه القاضي-برغم وحدته- عزاؤه في الأخير، وتحرره من عقدة الذنب.
تعليقات
إرسال تعليق