القائمة الرئيسية

الصفحات

سينما محمد خان والحنين إلى ما لم يعد موجودا


- عرف المخرج محمد خان بتفرده في اختيار إهداءات أفلامه, وهي إهداءات قد يضعها خان في مقدمة فيلمه أو في نهايته. فمرة يكون الإهداء لعبد الحليم حافظ, أخرى لليلى مراد, أم كلثوم بالطبع, صلاح جاهين, وانتهاءً بسعاد حسني بفيلمه فتاة المصنع.


وانطلاقا من تلك الإهداءات التي بالطبع هي نابعة في البدء من حب وتقدير يحملهما خان إلى تلك الشخصيات المصرية المؤثرة - ليست فيه فقط - إنما هي مؤثرة وحاضرة بقوة في تركيبة الشخصية المصرية ذاتها.

فذلك ليس بالداعي الوحيد لوجودها, وإنما ينطوي ذلك على دواع أكبر تضح من خلال تيمات متكررة في سينماه, لتصبح تلك التيمات بمثابة مفاتيح لقراءة سينما خان, وشخوصه.



نجد أن خان دومًا يحن إلى زمن ضائع؛ حنين تحمله شخصياته تجاه ماضٍ تم التعدي عليه، أحلام تم انتزاعها عنوة وبراءة مفقودة، ولذلك يمجد خان بدوره كل بسيط، حميمي، مفتقَد في واقع خشن، ومادي.


إن شخصيات خان هي شخصيات غارقة تمامًا في النوستالجيا.


Nostalgia 

هي في الأصل مفردة مكونة من شقين من أصل يوناني

الأول هو “NOSTOS” وهو يعني العودة للبيت, والشق التاني هو “ALGOS” ومعناه الألم \ المعاناة. 

الشقان مع بعضمها يكونان "الحنين" وهو الرغبة هو في أشياء لم تعد موجودة بدورها, أو لم توجد في الأساس.


 في فيلم الحريف نرى فارس ممدد على فراش حيث يقطن في غرفة على السطوح- من وراءه تظهر المدينة- مبهمة غير واضحة المعالم وينفخ فارس السجائر على أنغام عبد الحليم غير مكترث. إن فارس لا يأبه بواقعه، وهو ذروة تمثل لشخصيات خان بعد أن "تدرك".

فما الذي أدركه فارس ليصبح بتلك العدمية السلبية؟


في فيلم "زوجة رجل مهم" نرى في البدء "منى" ميرفت أمين وهي فتاة صغيرة – بريئة تماما تردي فستان وأقراط رقيقة على شكل فراشات بينما تبدو متيمة بعبد الحليم حافظ.

من الوهلة الأولى تبدو منى هائمة تماما في ذلك المطرب – ولكن بشكل أدق أو بالأحرى فمنى مستغرقة أكثر في ذلك الزمن الذي يمثله عبد الحليم -  ببراءته وخفته.


في قصة لأنطون تشيخوف باسم "الصياد" يصف تشيخوف العلاقة بين الصياد وزوجته فيقول : 


"وبينما تتطلع امرأة الصياد إليه بحنان يرد عليها هو بخشونه، ترمقه بنظرة ود فيعيد الإمساك بمسدسه متحسسًا الخطر، خطواتها رقيقة، بينما خطواته تجعل من الغابة كئيبة وتمحي من السماء نورها، تضحك بسعادة فيرد بلا مبالاة" 


تلك المفارقة التي تضح من خلال وصف تشيخوف لكل من الصياد وامرأته تعبر عن استحالة العيش بينهما – بين رقة وحنان – وقسوة وتخوف

 وهي نفسها تلك العلاقة التي نراها في الفيلم – بين منى وزوجها "هشام" أحمد زكي.

نهاية الفيلم هي نهاية مأسوية تماما لأنها تشي بالنتيجة الحتمية حين اصطدام الأحلام الوردية بالواقع المادي الجاف.


حالة مماثلة نجدها في فيلم موعد على العشاء. ففي البداية نرى نوال وهي في محل أنتيكات تراقب البضائع المعروضة, تقف نوال أمام لوحة لرجل يصطحب فتاة صغيرة في نزهة, تتأمل نوال اللوحة بتمعن كبير ووله, فجأة تنتهي نوال للبكاء بحرارة في السيارة بينما تواسيها صديقاتها.


وهنا يختار خان للسبب أن يكون جماليا أكثر – غير واضح-  على عكس ما يحدث في فيلم زوجة رجل مهم, ففي فيلم زوجة رجل مهم تضايق منى بشدة وتحبط  حين علم هشام بوفاة عبد الحليم حافظ  - لأن هشام يتفه من موت عبد الحليم ويصف الأمر برمته بأنه مجرد "مطرب ومات".

ولكن في موعد على العشاء تبكي نوال بحرقة لسبب لا تعلمه بعد تأمل اللوحة.


إن البكاء غير المفهوم هو تمثل لكل ما هو جوهري وعميق بداخل شخصيات خان, فهي تلك الشخصيات التي أملت بواقع وردي ومثالي وعليه حين الاصطدام بالواقع تتعرض تلك الشخصيات لما يشبه الصدمة, لأن الواقع مختلف تماما عن تصوراتهم أو روحهم الطفولية البريئة. 

في تلك الحالة ونتيجة الصدمة يحدث نكوص وعودة إلى ماضي ما, حتى ولو لم يوجد في الأساس, ذلك ما يفسر حالة الحنين المرضية تلك.

ولذا تكون نهاية نوال مأسوية مثل منى, ولكن نوال أكثر بؤسا فلا تقتصر رغبتها في الخلاص أو التطهير على منع الشر من العالم, بل يرافق تلك الرغبة رغبة أقوى في الزوال, وهنا تضح تلك اللمحة التشاؤمية عند خان.


يمتد هذا التشاؤم ليطول شاكر أيضا "يحيى الفخراني" بطل فيلم عودة مواطن, فشاكر بعد عودته من الخليج يجد أن كل شيء قد تغير بدوره ولم يعد على طبيعته, الأهل والأصدقاء والعمل والحبيبة, يصطدم شاكر بذلك الواقع الجاف من جديد, وعليه ينتهي شاكر بقراره السفر من جديد والعودة إلى الخليج, وهنا يتجلى سخط  خان على ذلك الواقع المعاصر وثقافة العصر المستهلك بطبعه, فشاكر هنا رغم يقينه بعدم الراحة بعيدا عن وطنه إلا أنه يختار الرحيل في نهاية الأمر عوضا عن رؤية الأشياء التي يحبها تنهدم أمام عينيه.


الرابط بين منى وشاكر ونوال أو بالأحرى "علتها" هو الحنين.

 إن حنين تلك الشخصيات هو السبب الرئيسي لسقوطها وإحباطها, ولذلك يمكن القول أن فارس "عادل إمام" في فيلم الحريف هو تمثل لشخصيات خان ولكن بعد أن تدرك.


يظهر فارس كشخصية متخلية سلفا عن أحلامها, عنيد, خالي من الحلم والبراءة بنظرة جامدة خاوية طوال الوقت, يلعب لكسب المال لا ليستمتع.

هنا تكمن عدمية فارس- النابعة من إدراك لمصير الحالمين, ويتضح في نفس الوقت أن فارس لا يختلف إطلاقا عن شخصيات خان الأخرى, الفارق أن فارس متخوف من نفس المصير وعليه ينسى أحلامه ويتخلى عن تصوراته الوردية تجاه هذا الواقع, إن فارس بتصالحه مع ذاك الواقع يصبح جزءًا أصيلا فيه, متماهي تماما مع قوانينه, قوانين اللعب والشارع.


يفسر الأمر نظرة فارس لكابتن مورو حين توديعه بأحد المشاهد, فينظر فارس لكابتن مورو وهو يرحل بحزن ورثاء شديدين,

 فهو يعلم في قرارة نفسه أن مورو أحد أولئك الذين قتلتهم الأحلام بسبب كونه شخصية مستغرقة تماما في الماضي المنصرم, ويظهر ذلك مع كل ظهور لكابتن مورو فهو لا ينفك أن يحكي عن ذلك الماضي, هنا يتولد عند فارس شعور مركب تجاه كابتن مورو, بين السخط والازدراء والشفقة على حاله. 

فارس يزدري كابتن مورو لأنه ببساطة يذكره بنسخته الأولية – الساذجة.

 كما يشفق عليه لأنه يعلم تماما أن تلك النسخة تعاني جراء وجودها في الحاضر.

فارس يرفض أن يهزم ببساطة ويرى السبيل لذلك عن طريق التمسك بعدميته وإخفاء طباع ما.


إن تلك الطباع التي يخفيها فارس هي المؤدية لالتباس كبير حين النظر لسينما خان وهي المسببة لوصف سينما خان بسينما"رومانسية" وهو بالطبع تعبير خاطئ تماما حين النظر إلى نهايات أفلامه, فعلى النقيض, إن خان في حقيقة الأمر هو متشائم تماما, أو بالأحرى واقعي.


شخصيات خان هي الحالمة وليس خان نفسه, فخان نفسه وإن كانت تلك الشخصيات تحمل جانبا منه, وهو الإخلاص والانتماء إلى زمن ولى, فهو في نفس الوقت مقر بانتهاء هذا العصر وذلك ما يفسر هزيمة شخصياته في واقعها المعاصر, خان لا ينتصر لتلك الشخصيات الحالمة أبدا ,وإن كان مؤمنا بها فهو لا يؤمن بالواقع الحالي.


تجربة مغايرة لخان عن ما سبق وهو فيلم "في شقة مصر الجديدة" هنا يتغنى خان من جديد بما هو حميمي فيما مضى, فتحكي أبلة تهاني للطالبات في البدء عن ليلى مراد والحب وكأن خان يضع تهاني امتدادا لذلك الحنين الذي لا يصدأ.


تلك المرة يبحث خان عن شيء محدد وهو الحب, عن طريق تساؤل ضمني طوال الفيلم وهو : هل الحب الذي وجد في زمن ليلى مراد لازال موجودا؟ أو هل معنى مثل "الحب" متواجد من الأساس؟


تبحث نجوى عن تهاني, وهي بالطبع تبحث عن ذلك الحب المتمثل في تهاني وليس تهاني نفسها, هي محاولة للعودة إلى الأصل- بالرجوع إلى أسطورة الانفصال بين الذكر والأنثى التي حكته تهاني للطالبات في ماضيهن, وهنا نجوى تبحث عن ذلك التوحد والتماهي بعد الانفصال.


نجوى هي شخصية مريضة بالحنين مثل تهاني, مثل نوال ومنى وشاكر أيضا, وذلك ما يسبب خيبات متكررة لها في القاهرة, المعبرة بدورها عن ذلك الواقع المادي الذي لا يعرف الحب ويتضح ذلك أكثر من خلال العلاقة بين يحيى وداليا.

في نهاية الفيلم وبعد بحث مضني عن تهاني فهي لا تظهر, فقط يصل خبر وجواب بوجودها في بور سعيد وبأنها وجدت حب حياتها وستكمل ما تبقى من حياتها معه, وتعد تلك التفاتة ذكية من خان فأثر تهاني وإن وجد تظل تهاني لم تظهر – هو مجرد خبر متنقل في نهاية الأمر.

وكأنه نوع من الوهم المشترك – والاتفاق الضمني بين شخصيات الحكاية كلها;  شفيق ونجوى ويحيى - اتفاق على أن تهاني على قيد الحياة ووجدت الحب وبالتالي فهو إقرار بالتبعية بوجود الحب كمعنى قائم في ذلك الواقع التي تعاني شخصياته من فقدان الحب فيه.

كما ينتهي الفيلم نهاية مثالية – تتفق مع معنى الحب أكثر, الحب الجوهري في ذاته ولذاته, فرغم نشوء الحب بين يحيى ونجوى إلا أننا لا نراهما مع بعضهما بينما يجمعهما نهاية سعيدة, فكل منهما يكمل في طريقه, وذلك يتفق أكثر مع معنى الحب الحقيقي, وهو "الحب الذي لا يسعى للتملك" بتعبير إيريك فروم -

ويتم ذلك بترك الأشياء كما هي على طبيعتها- جميلة وبعيدة بدون الرغبة في تملكها.


من خلال تلك النتيجة ربما يقر خان بوجود نوع ما من التسوية في نهاية الأمر لابد من الوصول إليه ولو كان عن طريق الوهم, بشرط عدم الاستغراق في ذلك الحنين المَرضي أو الانصياع لقيود مفروضة, وتلك هي الشروط اللازمة للمعايشة والاتساق مع الواقع.

author-img
كاتب سيناريو وناقد مصري

تعليقات