القائمة الرئيسية

الصفحات

الحرافيش في السينما - صراع بين ثلاثة أجيال من المخرجين


للسينما المصرية عبر تاريخها الطويل علاقة وطيدة بالأدب ويُلحظ بداية من الخمسينيات تحديدا- الارتباط الشرطي بين كل من السينما المصرية والأدب, فلجأت السينما في ذلك الحين- وبعد قيام ثورة يوليو إلى الأدباء المعاصرين مثل نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس ويوسف إدريس والسباعي وغيرهم- ليقتبس السينمائيون من تلك الأعمال, ويمتد الأمر ليحل بعض الأدباء محل كاتب السيناريو, وكان أبرزهم بالطبع هو نجيب محفوظ.

وكتب نجيب محفوظ للسينما مباشرة أعمال مثل جعلوني مجرمًا من إخراج عاطف سالم ودرب المهابيل لتوفيق صالح والاختيار ليوسف شاهين والمذنبون لسعيد مرزوق, كما كتب قصصا للسينما مباشرة مثل أيوب لهاني لاشين وسيناريو محسن زايد, وأهل القمة لعلي بدر خان وسيناريو مصطفى محرم والخادمة لأشرف فهمي وسيناريو محرم, وبين السما الأرض لصلاح أبو سيف وسيناريو السيد بدير وغيرها من الأعمال التي يطول ذكرها.

كما أجاد محفوظ أيضًا عمله ككاتب سيناريو قادرعلى تحويل أعمال أدبية للغير لتصبح صالحة للسينما, كما فعل مع إحسان عبد القدوس في "أنا حرة" و "الطريق المسدود" وأعد بئر الحرمان لتصبح صالحة للسينما, والذي أخرجه كمال الشيخ وكتب السيناريو يوسف فرانسيس.

على النقيض تماما كان موقف محفوظ تجاه أعماله الأدبية, فكان يرفض تحويل أعماله الأدبية بنفسه إلى السينما, مؤمنا بكل من دور ورؤية المؤلف والمخرج السينمائي لعمله الأدبي, فما الجديد الذي سيضيفه إلى عمله هو!

ولذلك اهتم محفوظ برؤية جديدة لأعماله نابعة من الوسيط السينمائي.

وتبعًا لذلك وبداية من الستينيات بدأت السينما باقتباس عوالم محفوظ الأدبية ونقلها إلى السينما متمثل ذلك في أعمال كثيرة, على سبيل المثال لا الحصر روايات مثل.. بداية ونهاية, زقاق المدق, اللص والكلاب, الثلاثية, الطريق, خان الخليلي, القاهرة 30, السراب, الشحاذ, السمان والخريف, ميرامار, ثرثرة فوق النيل, الكرنك, قلب الليل وغيرهم الكثير..

كما يُلحظ أن محفوظ جمعت أعماله الأدبية بين جيلين وربما ثلاثة من المخرجين. بداية من صلاح أبو سيف وكمال الشيخ وحسن الإمام ومرورا بحسام الدين مصطفى وعاطف سالم وحسين كمال وعلي بدرخان وانتهاءً بجيل الواقعية الجديدة في السينما المصرية متمثل في فيلم قلب الليل لعاطف الطيب.




الحرافيش.. يلقبها البعض بدرة الرواية العربية, وهي أبرز إنتاجات محفوظ الأدبية وأكثرها شهرة بجوار الثلاثية وأولاد حارتنا, وفي عام 1986 بعد مرور تسع سنوات على صدور الرواية (77) تصدر للحرافيش ثلاث معالجات سينمائية في نفس العام ومن إخراج ثلاثة أجيال مختلفة من المخرجين.

"التوت والنبوت" إخراج نيازي مصطفى وسيناريو عصام الجمبلاطي، عن حكاية "التوت والنبوت" بطولة عزت العلايلي وسمير صبري وتيسير فهمي وحمدي غيث ومحمود الجندي

الحرافيش" إخراج حسام الدين مصطفى وسيناريو أحمد صالح, عن حكاية

"الحب والقضبان" (سليمان الناجي), والفيلم من بطولة محمود ياسين وصلاح قابيل وصفية العمري وليلى علوى وإبراهيم الشرقاوي وممدوح عبد العليم

"الجوع" إخراج علي بدر خان وسيناريو مصطفى محرم، عن حكاية "سارق النغمة والتوت والنبوت" ومن بطولة سعاد حسني ومحمود عبد العزيز وعبد العزيز مخيون ويسرا

قبلها وبعام واحد (1985)

 صدر عن الحرافيش فيلمين هما

"شهد الملكة" من إخراج حسام الدين مصطفى وسيناريو مصطفى محرم عن حكاية "شهد الملكة" ومن بطولة نادية الجندي وفريد شوقي وحسين فهمي وصلاح قابيل.

و "المطارد" من إخراج سمير سيف وسيناريو أحمد صالح عن حكاية "المطارد" ومن بطولة نور الشريف وسهير رمزي

يعد نيازي مصطفى أحد أهم رواد الكوميديا في السينما المصرية والتي بدأت ملامحها تتبلور في الثلاثينيات على أيدي "توجو مزراحي" الذي اتجه إلى الكوميديا الشعبية في السينما عن طريق الاستعانة برواد المسرح الكوميدي الشعبي أمثال (علي الكسار وفوزي الجزايرلي وأحمد الحداد)

في ذلك الحين اتجه نجيب الريحاني الذي يعد رائدا للكوميديا الاجتماعية في السينما للتمثيل السينمائي في أفلام مثل (صاحب السعادة كشكش بيه)

(بسلامته عايز يتجوز)

ولكن لم تلق تلك التجارب النجاح الجماهيري الكافي, حتى ظهور المخرج نيازي مصطفى.

 كان نيازي مصطفى حينها عائدًا من ألمانيا ولذلك فهو يعد ابن بار للمدرسة التعبيرية الألمانية في السينما والتي بدأت مع انتهاء الحرب العالمية الأولى, والتي اهتمت بتناول قصص الأشباح والمسوخ وقصص الرعب والأدب القوطي, انعكاسا لحال المجتمع الألماني حينها وإحباطه الناتج من الانصياع لمعاهدة فرساي, وكانت من الخصائص الأسلوبية لتلك المدرسة هو التلاعب بالظلال والديكورات المعقدة والأماكن الضيقة التي تعكس تيه ونفسية أبطالها المشوهين.

(الذي سبق نيازي مصطفى للدراسة هناك على أيدي التعبيريين الألمان كان "محمد بيومي" الذي يعد الرائد الأول للسينما المصرية, والذي دمج بين كوميديا شابلن وروح وخصائص التعبيرية الألمانية).

وعليه وثق نجيب الريحاني في نيازي مصطفى حينها – رغم أن نيازي كان عمره حينها لم يتعدى سبعة وعشرون عامًا, وكانت التجربة التي جمعتهما هو فيلم

"سلامة في خير" عام 1937, وقد لاقى الفيلم نجاحًا جماهيريًا كبيرًا, رغم ذلك لم يلق لقاءهما الثاني نجاحا يقترب للنجاح الأول. فقد تكرر اللقاء في فيلم " سي عمر" فلم يلق الفيلم ناجاحا مشابها أبدا لفيلم سلامة في خير.

ليبدأ بعدها المخرج نيازي مصطفى مسيرة حافلة ومتنوعة من الأفلام التي قاربت -وربما جاوزت المائة فيلم.

تنوعت أعمال نيازي مصطفى بين الكوميديا الاجتماعية والميلودراما والغنائي وقد لاقت جميعها نجاحًا جماهيريًا عظيما.

ونظرا لتاريخ السينما المصرية وروادها من الممكن القول أن نيازي هو أحد أولئك المؤسسين – بجوار بيومي ومحمد كريم وأحمد بدر خان وكمال سليم.

تناوُل نيازي مصطفى للحرافيش كان تناولًا مختلفًا بعض الشيء عن الرواية, فالفيلم يتناول فصل "التوت والنبوت" وهو الفصل العاشر والأخير من الرواية, وفي الرواية يظهر اهتمام محفوظ بالابن "عاشور" أكثر من اخوته "ضياء" و "فايز" أولاد حليمة, فنرى نشأة الطفل عاشور وارتباطه بأهل الحارة وبحواديت جده والفتوَنة.

في الفيلم أتى التناول مختلفًا, نعم يهتم نيازي مصطفى بإبراز شخصية عاشور "عزت العلايلي" والذي تضح من البداية سماته الذكورية, وصفات مثل المروءة والشجاعة ولكن يهتم الفيلم أكثر بحكاية كل من ضياء وفايز, هنا يظهر ميل نيازي مصطفى للمواضيع الاجتماعية أكثر, فهو من خلال التركيز على حكاية كل من فايز وضياء فهو يعرض الجانب الاجتماعي من الحكاية, والذي يتمثل في رحلة الصعود الطبقي لتلك الأسرة.

كما يهتم نيازي برصد الجانب الخفي من حياة فايز الناجي, والذي لم يذكر في الرواية إلا عرضيًا, ففي الرواية لا نعرف عن قصة صعود فايز الطبقية إلا أنه بعد سرقته للحمار لم يظهر, وحينما ظهر كان غنيًا بما يكفي لتعيش الأسرة في مستوى مختلف عما كانت عليه, وتنتقل من البدروم إلى أفضل وأرقى بيوت الحارة, ولا نعرف ما يخفيه فايز إلا في النهاية, عندما يأتي للمنزل شاحبًا ويخبرهم بخسارته كل شيء, لكن في الفيلم يعرض نيازي كيف ترقى فايز بالتدريج, وكيف كان يوقع بزبائنه, ونرى كيفية إدارة فايز للمنزل المشبوه, بما فيه من دعارة ومخدرات حتى نشهد نهايته, كذلك نعرف تفاصيل انصياع ضياء للفتوة حسونة, والذي يظهر دناءته أكثر مع مرور الأحداث على عكس فايز قليلا, وعاشور كثيرا- الذي يظهر مناقضا تماما لصفات ضياء, حتى الجسمانية, ففي مشهد نرى ضياء يتراقص إرضاءًا لحسونه ورجاله وفي مشهد آخر يبعد عينيه عن عين حسونه عندما يضرب حليمة على وجهها, على عكس عاشور في المشهد الأخير وهو يصفع حسونة ويتجرأ على رجاله في كل مرة.

كما جاء الاختلاف في الدافع وراء ثورة عاشور, ففي الرواية يتحلى عاشور بنبل خالص يحركه طوال الوقت, أما في الفيلم لا يتحرك عاشور للانتقام من الفتوة إلا بعد تعرضه هو وأسرته للمهانة, وهنا يبدو الدافع ذاتيًا- أنانيًا أكثر.

الفيلم الثاني هو فيلم " الحرافيش" وهو للمخرج حسام الدين مصطفى, الذي يعد زمنيا في المنتصف بعد جيل الكلاسيكيين والواقعيين الجدد ولمن سبقوهم في السبعينيات ولم تكن تلك هي التجربة الأولى لحسام الدين مصطفى مع أعمال محفوظ, فقبلها أخرج أفلام عن روايات

"الشحاذ, السمان والخريف, الطريق"

كما كان مخرجا لفيلم شهد الملكة عن فصل "شهد الملكة" في الرواية والذي سبق فيلم الحرافيش بسنة.

ويعد النقاد حسام الدين مصطفى أبرز مخربي الأعمال الأدبية عند نقلها إلى السينما, وظهر ذلك بتطرف عند نقله أعمال دوستويفسكي إلى السينما المصرية

تمثل ذلك في أفلام (الأخوة الأعداء, والشياطين, وسونيا والمجنون)

بالترتيب عن الأخوه كارامازوف, والشياطين, والجريمة والعقاب.

رغم ذلك " التخريب" يشيد بعض النقاد بمجهوده في أفلام مثل النظارة السوداء وهو عن رواية لإحسان عبد القدوس, وفيلم السمان والخريف عن رواية محفوظ.

ما فعله حسام الدين مصطفى في الفيلم- وهو فيلم يتناول الحكاية الثالثة من الحرافيش " الحب والقضبان" – هو ابتعاد تام عن الرواية وتشويه كامل لها – فالحكاية الثالثة في الرواية تعرض كيف تدهورت أحوال عائلة الناجي بعد موت عاشور الناجي ومن بعده شمس الدين, لتكون بداية السقوط عند سليمان وأولاده (خضر وبكر)

ويختزل حسام الدين مصطفى صراع الحرافيش بأكمله ليصبح صراع حول النساء, متمثل أكثر في صراع بين بكر ( ممدوح عبد العليم) وخضر (إبراهيم الشرقاوي ) على رضوانة (ليلى علوى) متجاهلا جوهر الصراع الرئيسي بين شخصيات الحكاية, مبتعدا تماما (متعمدا) عن عرض الأزمة الرئيسية, وهي أزمة الحرافيش, وفي مشهد صريح يعلن المخرج عن رؤيته للحرافيش فيصفهم بالعواطلية والحرامية.

 بجانب مشهد آخر لعتريس (صلاح قابيل) بينما يطلب المال من سليمان الناجي "محمود يس" مدعيا توصيله للحرافيش وبعدها يقوم بسرقته.

هنا يتضح رؤية حسام الدين مصطفى النابعة من خلفيته السياسية بالطبع وموقفه الواضح من الاشتراكية.

كما تأتي النهاية ميلودرامية بالطبع, كعادة المخرج, ويغلب على الفيلم الأداء الزاعق, المسرحي بتطرف, مع تسطيح كامل لشخوص الحكاية على عكس ما فعله نيازي مصطفى وهو الاهتمام بكل شخصية على حدة والحفاظ على التباين بين الشخصيات.

الفيلم الثالث هو فيلم "الجوع" لعلي بدرخان وهو فيلم جامع لحكايتين من حكايات الحرافيش, وهما "سارق النغمة" و" التوت والنبوت"

ويعد بدرخان من جيل السبعينيات من المخرجين, والذي تلقى صدمة النكسة وتأثر بها, لينشغل بعدها بمحاسبة السلطة والمجتمع على تلك الفاجعة, ويظهر الهم السياسي والمجتمعي لبدرخان في جميع أفلامه بدءا من الكرنك ومرورا بشفيقة ومتولي وأهل القمة حتى الوصول لفيلم الجوع.

فيلم بدرخان هو الأقرب للرواية, رغم إنكار بدرخان في تصريح سابق اقتراب الفيلم منها, إلا أنه واضح تماما, فشخصية جابر (عبد العزيز مخيون) هي المعادل لعاشور الناجي, الذي يكون شغله الشاغل هو استرداد حق الحرافيش من الفتوة "حسونة السبع" بعد مرور وقت طويل تتعرض فيه الحارة وحرافيشها للجوع بسبب احتكار التجار ومباركة الفتوة للأمر.

هنا يظهر اهتمام بدرخان بذلك الجانب في الرواية, وهو الهم الجمعي للحرافيش, فرغم اهتمام بدرخان بقصة الحب بين جابر وزبيدة (سعاد حسني) إلا أنه مقارنة بفيلمي نيازي وحسام الدين مصطفى لا يهمش الحرافيش أبدا لصالح شخوص وأبطال الحكاية.

للأسف لم يهتم بدرخان بتناول الجانب الروحاني المتصوف – الوجودي في الرواية والذي يعد جوهرا لها, ولكن يصبح ذلك مبررا نظرا لهم بدرخان السياسي والمجتمعي الذي يشغله أكثر.

وبالطبع بسبب طبيعة السينما المصرية التي لا تسمح كثيرا بالالتفات لذلك الجانب.


author-img
كاتب سيناريو وناقد مصري

تعليقات