بدأ توهج السينما المصرية بالتزامن مع بدايات القرن العشرين وتحديدًا في منتصف العشرينيات حينما قدم المخرج محمد بيومي فيلمه القصير "برسوم يبحث عن وظيفة" عام 1923، ليكون الفيلم هو أول تجربة مصرية خالصة، وتبع الفيلم تجارب مصرية روائية أخرى أشهرها هو فيلم "ليلى" الذي أخرجه استيفان روستي عام 1927.
كان ليلى هو أول فيلم روائي مصري طويل، وكان من بطولة الممثلة المسرحية "عزيزة أمير" التي أنتجت الفيلم وقامت ببطولته وشاركت في كل من الكتابة والإخراج، ولذلك تعد عزيزة أمير من رواد السينما المصرية، والتي عرفت بعد ذلك ب "إيزيس" وهو اسم شركة الإنتاج الخاصة بها، ولم تكن عزيزة أمير هي المنتجة الوحيدة في السينما المصرية بل تبعتها الممثلة آسيا داغر، التي تعاونت في الثلاثينات مع المخرج أحمد جلال وسميت شركة إنتاجها ب "اللوتس".
ويتضح من أسماء شركات الإنتاج مثل إيزيس، اللوتس، ورمسيس ليوسف وهبي، نفرتيتي لأحمد سالم، ومن قبلهم ستيديو أمون للمخرج محمد بيومي –الفخر بالحضارة المصرية القديمة، لتعبر تلك الأسماء عن اعتزاز واضح بالهوية منذ اللحظة الأولى.
تبع ليلى فيلم آخر وهو زينب، الصادر عام 1930 للمخرج محمد كريم، ويلحظ من فيلم زينب شيئين، أولهما اعتياد تسمية الأفلام بأسماء الأبطال السيدات ونرى صدا ذلك فيما بعد في أفلام السيدة أم كلثوم، والثاني هو الاتجاه للأدب، حيث اُقتبس الفيلم من رواية "زينب" للأديب المصري محمد حسين هيكل الصادرة عام 1914، والتي يعدها النقاد أول رواية عربية.
كان فيلم زينب من بطولة الممثلة المسرحية بهيجة حافظ، حيث قامت بدور الفلاحة زينب في الفيلم، ويعد زينب هو أول فيلم يرصد الريف المصري.
ويتضح من فيلم زينب ومن قبله ليلى- بإلاضافة لأفلام مبكرة مثل فاجعة فوق الهرم وتحت سماء مصر عام 1928 اللذان كانا من بطولة الممثلى المسرحية الشهيرة حينها فاطمة رشدي- أن الممثلات المصريات حَزنَ مبكرًا على بطولات مطلقة في السينما المصرية كما حصُلن على الاحترام والتقدير الكافيين، ويحسب لفاطمة رشدي مشاركتها في فيلم "العزيمة" عام 1939 والذي يعد الفيلم المؤسس للواقعية المصرية، التي ترسخ نهجها فيما بعد على يد صلاح أبو سيف وكمال الشيخ وبركات وغيرهم من المخرجين.
وانطلاقًا من الإيمان بأهمية دور السيدات في تلك المرحلة المبكرة من السينما المصرية، بدأت رحلة السيدة أم كلثوم في السينما حين شاركت بصوتها رفقة المخرج محمد كريم في فيلم "أولاد الذوات" عام 1932، ويعد أولاد الذوات هو أول فيلم روائي مصري ناطق، حيث أصر الممثل يوسف وهبي على أن يكون الفيلم ناطقًا دفاعًا عن الشرق الذي تم وصفه بأنه همجي وغوغائي، وهي صورة ذهنية انطبعت عند الغرب تجاه الشرق، ويتضح ذلك من الأفلام الأولى التي أنتجتها الشركة الإيطالية في مصر مثل "الشرف البدوي" و"نحو الهاوية" في 1917، ثم أغلقت تلك الشركة أبوابها، وقدمت تلك الأفلام صورة نمطية عن العرب والشرق حيث ظهر المصريون فيها مجرد رعاة للغنم في الصحراء.
وكان كريم واحدًا من رواد السينما المصرية، والذي بدأ بأول الأفلام الغنائية
"الوردة البيضاء" عام 1933 من بطولة المطرب والملحن الكبير محمد عبد الوهاب، ليبدئان بعدها سلسلة ممتدة من الأفلام الغنائية. ولم تقتصر بطولة الأفلام الغنائية في ذلك الوقت على عبد الوهاب فقط، بل دخل السينما الكثير من نجوم الطرب حينها مثل "نادرة" التي مثلت قبل عبد الوهاب بفيلم "أنشودة الفؤاد" عام 1932 والسيدة منيرة المهدية التي مثلت في فيلم الغندورة عام 1935 والفيلمان من إخراج ماريو فولبي ونجاة علي في "معجزة الحب" لإبراهيم لاما عام 1930، وبالطبع كان لدخول المطربين عالم السينما أثرًا واضحًا; إيجابيًا لأنه جعل السينما جاذبة لأكبر عدد من الجمهور، وسلبيًا لأن شبح الفيلم الغنائي ظل مهيمنًا على السينما المصرية لسنوات طويلة، وحتى ثورة 52 .
بعد فيلم أولاد الذوات بثلاث سنوات تم إنشاء ستديو مصر (شركة مصر للتمثيل والسينما) عام 1935 بقرار من طلعت حرب، منطلقًا من رغبة في النهوض بصناعة السينما المصرية، وكان ستديو مصر مكان انطلاق الكثير من رواد السينما المصرية، مثل أحمد بدرخان، ونيازي مصطفى، وأحمد سالم الذي عين رئيسًا لستديو مصر حينها.
وكان فيلم "وداد" الصادر عام 1936 هو أول إنتاجات ستديو مصر والذي قامت ببطولته السيدة أم كلثوم، ويدور الفيلم في عهد المماليك حيث يتعلق التاجر الثري باهر (أحمد علام) بجاريته وداد (أم كلثوم) خاصة بعد تعرضه لأزمة مالية لتضحي الجارية بكل شيء من أجل ذلك الحب، وقد شارك في كتابة الفيلم الشاعر أحمد رامي والمخرج أحمد بدر خان، الذي لم يكن محظوظًا بإخراج الفيلم نظرًا لقرار من أحمد سالم وتحديدًا بعدما طلبت أم كلثوم أن لا يحتوي الفيلم على مشاهد حميمية (أحضان وقُبل) تجمع بينها وبين أحمد علام، ليتولى المخرج الألماني فريتز كرامب مهمة إخراج الفيلم، ونتيجة لذلك الموقف توكل أم كلثوم فيما بعد مهمة إخراج جميع أفلامها للمخرج أحمد بدر خان، الذي سيشاركها فيما بعد في أربعة أفلام من ضمن خمسة أفلام مثلتهم أم كلثوم حتى تركها السينما.
ويحسب لكرامب قدرته على عرض الفيلم بمهرجان فينيسيا السينمائي، الذي تأسس عام 1932 في عهد الفاشية الإيطالية، وكان حينها هو أول مهرجان سينمائي دولي يتم إنشاؤه وتلاه فيما بعد برلين وموسكو وكان.
وفي الفيلم غنت أم كلثوم "حيوا الربيع " من تلحين السنباطي، و "بشير الأنس، ياليل نجومك شهود" من تلحين زكريا أحمد، و "ليه يازمان كان هوايا، ياللى ودادك صفالى، ياطير ياعايش أسير" من ألحان القصبجي، وكانوا جميعهم من كتابة أحمد رامي.
وقبل وداد تعاونت أم كلثوم مع الشيخ زكريا أحمد منذ عام 1931 في "ياللي حبك هناه، هو ده يخلص من الله، جمالك ربنا يزيده، ياقلبي كان مالك"
ومرورًا بالأعوام 1934 و 1935 في "شجاني نوحي، آه يا سلام" ومع القصبجي بدأت أم كلثوم مشوارها بأغنية "قال إيه حلف" عام 1924.
ولكن مع السنباطي كان وداد هو أول تعاون يجمع بين أم كلثوم والسنباطي، لتبدأ بعدها شراكة فنية امتدت لما يزيد عن ثلاثة عقود لحن فيها السنباطي للسيدة أم كلثوم مجموعة من أفضل أغانيها مثل "الأطلال، ليلي ونهاري، حيرت قلبي معاك، هجرتك، جددت حبك ليه" وغيرهم الكثير.
بعد ذلك وعام 1937 بدأت أم كلثوم أول أفلامها التي كانت من إخراج بدرخان وهو فيلم "نشيد الأمل – منيت شبابي" ويدور الفيلم حول شخصية آمال (أم كلثوم) ومعاناتها في تربية طفلتها المريضة سلوى، ويبتسم الحظ لآمال بعد أن يكتشف موهبتها في الغناء الدكتور عاصم الذي قام بدوره الممثل المسرحي الكبير زكي طليمات.
وفي الفيلم غنت أم كلثوم ست أغنيات، ثلاث منها من تلحين القصبجي "يا بهجة العيد، منيت شبابى، ياللى صنعت الجميل" وثلاث من تلحين السنباطي" ياشباب النيل، افرح ياقلبى، قضيت شبابى" بينما كتب كلماتهم جميعًا الشاعر أحمد رامي.
كتب الرواية السينمائية للفيلم مباشرة الكاتب والمترجم "ادموند تويما" الذي ترجم الكثير من روايات المسرح العالمي وقدمها برفقة فرقة رمسيس المسرحية التي كان مؤسسها يوسف وهبي، بجانب ذلك اشتهر تويما بأدوار الخواجة والجواهرجي في كثير من أفلام تلك الحقبة وحتى منتصف السبعينيات ليكون آخر ظهور له في دور جواهرجي بفيلم المذنبون لسعيد مرزوق عام 1976.
أتي فيلم منيت شبابي مغايرًا لفيلم وداد حيث ابتعد عن رصد حقبة تاريخية وهو ما شيع في أفلام تلك الحقبة من السينما المصرية، كما في أفلام مثل شجرة الدر الصادر عام 1935 للمثلة آسيا داغر والمخرج أحمد جلال، والغندورة في نفس العام للمخرج ماريو فولبي وبطولة فتحية أحمد.
فجاء الفيلم معاصرًا يرصد أزمة السيدة آمال وطفلتها حيث نرى كفاح آمال في الحياة لتربية ابنتها وعلاجها، ولم يكن أداء أم كلثوم مزعجًا، بل كان مقبولًا قياسًا بطبيعة الأداء في تلك الفترة المبكرة.
الفيلم الثالث لأم كلثوم هو دنانير، وهو فيلم تاريخي صدر عام 1940، وفي الفيلم تعود أم كلثوم لتأدية دور البدوية في قصة من كتابة أحمد رامي، الذي اقتبس السيناريو من قصة حب جعفر البرمكي للجارية دنانير في عهد هارون الرشيد.
وكان اسم الفيلم في البداية هو هارون الرشيد ليعنون فيما بعد ويظهر في تتر البداية بخط كبير : هارون الرشيد، وتحتها بخط صغير: قصة دنانير.
وغنت أم كلثوم في الفيلم ثمان أغنيات كانت كلها من تأليف أحمد رامي عدا أغنية
"قولي لطيفك ينثني" وهي قصيدة كان قد كتبها الشريف الرضي.
لحن الشيخ زكريا أحمد ثلاث أغنيات هم "قولي لطيفك ينثني، بكرة السفر، رحلت عنك ساجعات الطيور"
ولحن القصبجي " يافؤادي غني ألحان الوفا، الزهر في الروض، طاب النسيم العليل"
ولحن السنباطي أغنيتين وهما " الشمس مالت، ويا ليلة العيد آنستينا التي اشتهرت في الإذاعة المصرية فيما بعد.
الفيلم الرابع من بطولة أم كلثوم كان فيلم "عايدة" وقد صدر عام 1942، إخراج أحمد بدر خان وقصة عبد الوارث عسر الذي استوحاها من "أوبرا عايدة" وترجع قصة أوبرا عايدة للكاتب الفرنسي وعالم المصرييات "أوغوست مارييت" وتدور القصة في مصر القديمة عند تعرض عايدة (الأميرة الحبشية) للأسر في مصر، لتقع بعدها في حب القائد الحربي "راداميس" الذي يبادلها نفس القدر من الحب، ولكن لسوء حظها تحب "آمنيريس" (ابنة فرعون مصر) راداميس هي أيضًا وبذلك يكون موقف عايدة أكثر صعوبة.
كتب السيناريو والحوار كل من فتوح نشاطي وعباس يونس، وتدور قصة الفيلم حول عايدة الفتاة الريفية الفقيرة التي تقع في حب سامي ابن الباشا، ويساعدها سامي وخاصة بعد موت أبوها لتلتحق بمعهد الموسيقى نظرًا لموهبتها الفذة، بعد ذلك وحين طلب سامي من والده خطبة عايدة يقابل طلبه بالرفض، وفي الأخير حين شهرة عايدة يوافق الأب مرغمًا على زواجهما.
غنت أم كلثوم في الفيلم مجموعة من الأغان كتبها أحمد رامي ولحنها كل من القصبجي وزكريا أحمد، فلحن القصبجي أغنيات " ياقلبي بكره السفر، إحنا وحدنا، عطف حبيبي هناني"،
ولحن زكريا أحمد أغنيات "القطن فتح، فضلي إيه يا زمان، يافرحة الأحباب" كما غنت أم كلثوم أوبرا عايدة التي قسمت لفصلين، الأول لحنه القصبجي، والثاني لحنه السنباطي. بالإضافة لأغنية غنتها فتحية أحمد.
رغم كل ذلك فشل فيلم عايدة في شباك التذاكر وأرجعت أم كلثوم ذلك الفشل إلى إسناد دور البطولة للممثل إبراهيم حمودة الذي قام بدور سامي ابن الباشا.
الفيلم الخامس لأم كلثوم كان فيلم سلامة وقد صدر عام 1945 وكان من إخراج توجو مزراحي، الذي اشتهر بأفلامه التاريخية والكوميدية، خاصة أفلامه مع علي الكسار.
كتب سيناريو وأغاني الفيلم الشاعر بيرم التونسي، والفيلم مقتبس من رواية للكاتب الأندونيسي علي أحمد باكثير، والرواية ترصد قصة تاريخية لراعية غنم تسمى سلامة عاشت في ظل الدولة الأموية، بينما تقع سلامة في حب عبد الرحمن الجص، الذي يموت بين يديها في النهاية.
يبدأ الفيلم بتلك الكلمات "سلامة، هي قصة واقعية حقيقية لراعية بسيطة وهبها الله صوتًا جميلًا وقد عاشت سلامة في عهد الدولة الأموية، نقدم اليوم ناحية في حياة هذه الراعية التي بلغت أعلى المراتب فن فن الغناء، وتقوم بدور سلامة: أم كلثوم"
شارك يحيى شاهين أم كلثوم بطولة الفيلم فقام بدور عبد الرحمن الجص، كما شارك في التمثيل أيضا كل من عبد الوارث عسر وزوز نبيل واستيفان روستي.
غنت أم كلثوم في الفيلم " سلام الله علي الحاضرين، غنيلى شوى شوى، قوللى ولا تخبيش، قالوا أحب القس سلامة، يا عين يا عين ياعينى، في نور محياك"
وكانت جميع الأغاني من تأليف بيرم التونسي وتلحين زكريا أحمد، ماعدا قصيدة "أحب القس سلامة" فكانت من تأليف على أحمد باكثير وتلحين السنباطي.
الفيلم السادس والأخير لأم كلثوم هو فيلم "فاطمة" الصادر عام 1947 من إخراج أحمد بدرخان وكتابة بديع خيري، وهو فيلم استوحى قصته الصحفي "مصطفى أمين" من دعوى شهيرة قدمتها الممثلة فاطمة سري ضد محمد شعراوي ابن السيدة هدى شعراوي، لتثبت زواجها العرفي منه وتنسب ابنتها إليه.
يحكي الفيلم عن فتحي "أنور وجدي" الذي يتزوج بفاطمة الممرضة الفقيرة زواجًا عرفيًا ويتركها بينما هي حامل بناءً على رغبة أخوه الباشا، فيجتمع أهل الحارة ويقررون رفع دعوى على فتحي تقتضي باعترافه بابنه وبزواجه من فاطمة.
غنت أم كلثوم في فاطمة تسع أغنيات من كلمات بيرم التونسي وأحمد رامي، بينما شارك في الألحان كل من السنباطي والقصبجي وزكريا أحمد، أشهرهم أغنية "هقابله بكره" كلمات رامي وألحان السنباطي.
ويلحظ أن أفلام أم كلثوم في السينما جمعتها سمات مشتركة، مثل تأديتها لدور البدوية والفتاة الفقيرة التي تقع في حب أحد الأثرياء، اللجوء للقصص التاريخية والميلودراما العاطفية، والموتيف الرئيسي في كل القصص وهو الموهبة الغنائية لبطلة الحكاية، كما سميت كل الأفلام بأسماء البطلة عدا فيلم "منيت شبابي" أيضًا اشتراك كل من زكريا أحمد والقصبجي والسنباطي في تلحين الأغاني وكتابة أحمد رامي للكلمات.
وبالطبع كانت تلك السمات المشتركة هي سبب نجاح أم كلثوم في السينما، فقد استطاعت تطويع موهبتها بذكاء وأجادت اختيار الأدوار التي تتناسب مع الذوق العام للجمهور الذي كان يميل بطبيعته حينها للتعاطف مع ذلك النوع من الأبطال المستضعفين.
كما ساعدت ظروف تلك الحقبة أم كلثوم لتحافظ على ذلك النجاح، نظرًا لانتشار الفيلم الغنائي حينها، بالإضافة للشجاعة في إعطاء النساء أدوار البطولة بكثرة.
- نشرت المقالة في عدد فبراير لعام 2025، بمجلة عالم الكتاب، الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب.
تعليقات
إرسال تعليق