يرى الفيلسوف التجريبي جان لوك بأن الحالة الطبيعية للإنسانية هي حالة يسودها الحرية والمساواة والسلام، وتلك الحالة يصلها الإنسان بعد اختباره لكم كبير من المدخلات والتجارب الحياتية، وهو ما يدعمه جان جاك روسو بتطرف فيما بعد فيرى روسو بأن الإنسان بطبيعته خير ومثالي تمامًا وأن الشر هو مجرد دخيل على تلك الفطرة الخيرة، وهو ما يظهر بشكل واضح في كتابه "دين الفطرة".
على النقيض من أفكار روسو كان الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز، وفي كتابه "ليفياثان" يرى هوبز بأن الإنسان بطبيعته يميل لكل من الفوضى والشر، وهو بحد تعبيره "ذئب لأخيه الإنسان" وبالتالي يرى هوبز الحل في وجود سلطة مطلقة عليا لردع الإنسان عن ميوله الفطرية لكل من الشر والعدوان.
يمكن تفهم فلسفة هوبز وتفسيره للطبيعة الإنسانية بفهم السياق التاريخي، السياسي والمجتمعي لزمنه، فقد عاش هوبز أواخر القرن السادس - والسابع عشر -بإنجلترا - وهي الفترة التي شهدت تغيرات سياسية واجتماعية ودينية كبيرة وهو ما أثر على تفكير هوبز بشكل واضح.
بالتقدم في الزمن نرى حالات مماثلة كانت نتيجة للحربين، الحرب العالمية الأولى والثانية، فتبع كل منهما اتجاهات فنية وفلسفية جديدة، خاصة الاتجاهات العدمية التي تلت الحرب العالمية الثانية، في كل من المسرح والسينما والأدب، ومن الحركات السينمائية البارزة التي تبعت الحرب الثانية كانت الواقعية الجديدة بإيطاليا، والموجة الجديدة في كل من فرنسا واليابان والتشيك، ودول شرق أوروبا بالتحديد والتي هلكت تمامًا بسبب الحرب.
وبالاطلاع على السياق التاريخي لتلك الدول التي عانت يمكن قراءة نتاجهم الفني بعد الحرب بشكل يسير، وهو ما ينطبق بالمثل على سينما المخرج البولندي أندريه زولاوفسكي.
ولد أندريه زولاوفسكي في خضم الحرب، في بولندا عام 1940، وبذلك نشأ وسط أجواء الحرب المريرة، وهو ما ينعكس بشكل جلي في سينماه، حتى لو لم يكن بشكل مباشر- يدين - أو يشير للحرب.
وتأثر زولاوفسكي باتجاهات ما بعد الحرب التي تمردت على كل ماهو عقلاني وحداثي، فتبدو سينماه وكأنها تحتفي دومًا بكل ما هو ميتافزيقي، عجائبي وغريب، وبجانب موضوعاته، ومن خلال ميوله الأدبية للروايات التي اقتبس منها أفلامه، وأيضًا التناص مع مدارس فنية بعينها في الفن التشكيلي، يتضح مدى هيمنة الحرب على فكره، موضوعاته، وشخوصه.
تأثر زولاوفسكي بالأدب بشكل كبير، وهو ما يتمثل في أفلام مثل " امراة متاحة" و "حب مجنون" وهما اقتباسات من أدب دوستويفسكي لكل من "الشياطين" و"الأبله"، وأيضا في فيلمه "الشيطان" وفيه استوحى من فاوست جوته، كذلك أفلامه "على الكوكب الفضي" و "كوزموس" والأولى هي رواية ترجع لجده الذي قد عايش أجواء الحرب العالمية الأولى، وهي رواية دوستوبية، والثانية هي رواية غرائبية بامتياز للكاتب البولندي فيتولد جومبروفيتش.
وفي اقتباسه دومًا ما يبتعد زولاوفسكي عن الأصل كثيرًا، ويهتم بشكل أكبر بما يراه هو من أبعاد تعبر عن رؤاه الخاصة، فمثلًا في فيلمه "حب مجنون" الصادر عام 1985، وهو يحاكي فيه رواية الأبله لدوستويفسكي، تحديدًا الشق المتعلق بحب ميشكين لناستاسيا، نرى ميشكين وهو عضو لعصابة مسلحة، شرير في الأصل، وليس خيرًا مثاليًا كما في الرواية، كما يظهر كمازوخي نفسيًا وجسديًا، وفي الأخير ينتقم ممن عادوه بعنف شديد، كل ذلك مغاير تمامًا لسمات بطل دوستويفسكي، وإن اتفق معه بطل زولاوفسكي في "العصاب"، والعصاب هو بمثابة مكون جوهري في شخوص زولاوفسكي، وهو معبر بشكل كبير عن إنسان ما بعد الحرب العالمية الثانية، القلق دومًا حتى الهذيان، وهي سمات وجدت دومًا في أبطال دوستويفسكي ولذلك بدا من الطبيعي أن يلجأ زولاوفسكي لاقتباس اثنين من رواياته، كما يبدو اختيار العنف، وهو المسار الذي يسلكه البطل في نهاية فيلم "حب مجنون" هو خيار متسق تمامًا مع قناعات زولاوفسكي، فميشكين حتى النفس الأخير وهو استسلامي تمامًا، بطل سلبي ومثالي، ولكن في الفيلم فزولاوفسكي يميل لما هو منطقي، وما هو منطقي في نظره، أن يتحول الإنسان الذي تعرض للقسوة إلى النقيض تمامًا، وفي مشهد قبيل النهاية نرى عيون البطل تتحول من البراءة التامة إلى عيون أشبه بعيون مستذئب، وكأن الإنسان في حياته لابد وأن يعود لتلك الطبيعة الحيوانية، وهو ما يؤدي به إلى العنف في الأخير، لتحقيق عدالة ما على الأرض.
إيمانًا بغلبة الشر يتمثل ذلك في فيلم "الشيطان" الصادر عام 1972، وفيه استوحى زولاوفسكي التيمة الشهيرة للبطل الذي يتم إغواءه من الشيطان، وفي الفيلم لا نرى شيطانًا مغويًا من النوع التقليدي، الشيطان في الفيلم هو مجرد إنسان يتدخل لينقذ صاحبه في الأوقات الحرجة، ولكنه لا يقوم بتمرير أية أفكار له، الأمر ببساطة أن البطل يفعل الشر لأنه مؤمن بوجوده، وحتمية فعله، في تسليم تام للفوضى وفعاليتها، في زمن يتسق تمامًا مع كل ماهو فوضوي وشرير، كما منع الفيلم من العرض حينها نظرًا لشعور السلطات بأن زولاوفسكي يتحامل على بولندا بوضعه الخلفية التاريخية لأحداثه هي احتلال بروسيا لبولندا عام 1793، وتقديم رؤية مغايرة، ومفرطة في العنف للأحداث.
وفي فيلم "على الكوكب الفضي" الذي صدر عام 1988، وقد تم منعه لمدة عشرة سنوات من حكومة ببولندا الشيوعية، يقدم زولاوفسكي فيلمًا ينتمي لنوعية الخيال العلمي، وعلى خطى مدينة أفلاطون الفاضلة نرى سعي البشر لإنشاء مجتمع وحياة جديدة على كوكب آخر غير كوكب الأرض، ليصلون لنفس النتيجة، وهي الحرب، كما يكرر زولاوفسكي واقعة صلب المسيح، وكأن الأمر متكرر بشكل لا نهائي طالما وجد البشر، وهي رؤية تشاؤمية، نابعة من الماضي ومعبرة عن الحاضر وممتدة إلى المستقبل، فينتهي الكوكب الفضي في الأخير- والذي بدأ كيوتوبيا- إلى مجرد بقعة قاحلة من الأرض، كابوس أزلي معبرًا عن معاناة لا نهائية، وتعبر تلك النتيجة عن اقتناع زولاوفسكي أيضًا، رؤيته التشاؤمية الممتدة للمستقبل، والكارهة لكل ماهو مثالي ووردي.
في فيلمه الأشهر "استحواذ" الصادر عام 1981 يناقش زولاوفسكي فكرة المس الشيطاني، وهو ما نراه متمثًلا في سلوك "آنا" التي تطلب الانفصال عن زوجها، لتكتشف آنا في الأخير سيطرة كائن ما غريب الهيئة عليها. وهو ما نراه بالمثل قبل عشرة سنوات عند زولاوفسكي في فيلم "الثلث الأخير من الليل" الصادر عام 1971، وهو ربما أكثر أفلام زولاوفسكي ذاتية، فهو يدور في فترة الحرب العالمية الثانية عبر رصد رب أسرة يصارع لكي يحيا، المشترك بين الفيلمين هو سيطرة الأجواء الغرائبية، فكرة التماثل التي يجدها الأبطال بينهم وبين كائنات خرافية شنيعة، وأيضًا الدوران في فلك الحرب، بالإضافة إلى الخلفية السياسية للأحداث، وهو ما يؤكد من جديد على رؤية زولاوفسكي تجاه إنسان ما بعد الحرب، فهو إنسان بلا هوية محددة، وهو مساق من قبل سلطة عليا تتحكم في جميع مناحي حياته، وتلك القوى متطرفة في شرها فتبدو شيطانية تمامًا في هيئتها النهائية. وهذا ما يجعل من الإنسان المعاصر لكل ذلك إنسان مضطرب، قلق وهستيري تمامًا وهو ما ينعكس على العالم من حوله.
العالم حول أبطال زولاوسكي هو عالم غير مستقر، خطوط متعرجة ومنحنية دومًا، تصميم منحرف للأماكن الداخلية يذكرنا بديكورات التعبيرية الألمانية التي عبرت عن حال أبطالها المضطربين، ويظهر تأثر زولاوفسكي أيضًا بلوحات التشكيلي البولندي "زديسواف بيكسينسكي" في اختياره للأماكن وخاصة المساحات الشاسعة المليئة بالظلال والدمار وهو ما يتجلى بشده في فيلمه "على الكوكب الفضي" وفي اختيار الوجوه نرى تأرًا بالتعبيرين أمثال ادفارد مانك وفرانسيس باكون، وهي وجوه غير معلومة الملامح وممزقة نتيجة معاناتهم الداخلية.
كل ذلك يعكس طبيعة أبطال زولاوفسكي والعالم من حولهم، ويفسر بدوره مونتاج زولاوفسكي الحاد، قطعاته السريعة والقافزة، المشاهد المطولة سريعة الرتم والكاميرا المهتزة دومًا والأداء المسرحي المفتعل بمونولجاته الطويلة، والذي ينتهي بمواجهة مع الكاميرا وكسر للحائط الرابع رفقة موسيقى موترة وأداء عصابي وغرائبي، فيبدو كل ذلك كنتاج طبيعي لإنسان ما بعد الحرب، معاناته الداخلية، صراعاته مع ذاته التي فقدها، مع الآخر، والعالم المهدد له طوال الوقت.
عليه يكون اللجوء للشر هو الوسيلة الوحيدة للخلاص، "التطهر" بالمفهوم الأرسطي.
- نشرت المقالة بجريدة سومر العراقية في عدد شهر فبراير لعام 2025.
تعليقات
إرسال تعليق